إعداد: أحمد البشير
في السنوات الأخيرة، شهد سوق الأزياء المستعملة الفاخرة نمواً غير مسبوق، مع اتجاه المستهلكين إلى تبني خيارات أكثر استدامة واقتصادية. ولم يعد شراء حقيبة «شانيل» أو حذاء «لويس فويتون» حكراً على محال البيع بالتجزئة الفاخرة، بل بات بإمكان المستخدمين اقتناء هذه القطع عبر الإنترنت من خلال منصات مخصصة مثل «فيستيار كوليكتيف» أو «Vestiaire Collective»، التي أصبحت واحدة من أبرز اللاعبين في هذا القطاع على مستوى العالم.
كما هو الحال مع أي سوق مزدهر، فإنه يجذب التحديات، وأخطر هذه التحديات هو تفشي المنتجات المزيفة. وفي تقرير نشرته وكالة «بلومبيرغ» في يونيو/ حزيران الجاري 2025، أُزيح الستار عن حجم المعركة التي تخوضها «فيستيار كوليكتيف» لمكافحة الغش والتزييف في عالم الموضة الفاخرة المستعملة، وخصوصاً في ظل الزيادة الهائلة في عدد المنتجات التي يتم تداولها يومياً على منصات التجارة الإلكترونية.
منصة تجمع بين الفخامة والاستدامة
تأسست شركة «فيستيار كوليكتيف» في عام 2009 في باريس، لتكون جسراً بين عشاق الموضة الذين يرغبون في بيع قطعهم الفاخرة، وأولئك الباحثين عن اقتناء منتجات أصلية بأسعار أقل.
وقد اكتسبت المنصة شهرة واسعة بسبب نموذجها القائم على المصداقية، حيث يتم التحقق من المنتجات المعروضة من قبل فريق مختص قبل أن تصل إلى المشتري النهائي.
وخلال السنوات الماضية، توسعت المنصة عالمياً، وشهدت استثمارات ضخمة من شركات عملاقة مثل «كيرينغ» و«سوفت بنك» و«تايغر غلوبال مانجمنت»، ما جعلها من أبرز الأسماء في قطاع إعادة بيع الأزياء الفاخرة. ومع هذا النجاح، زادت معها محاولات التحايل والتقليد، سواء من خلال بائعين مزورين، أو شبكات منظمة لبيع السلع المزيفة.
التهديد الحقيقي: تقليد الفخامة باحتراف
ووفقاً لتقرير «بلومبيرغ»، فإن نسبة كبيرة من المنتجات التي يتم إدخالها إلى المنصة تكون «مشبوهة» أو تفتقر إلى الوثائق اللازمة لإثبات أصالتها. ويشير التقرير إلى أن بعض التقارير الداخلية في «فيستيار» قدرت أن أكثر من 50% من السلع في بعض الفئات تأتي دون إثبات موثوق. وتزداد خطورة هذه الأرقام حين نعلم أن عمليات التزوير أصبحت أكثر تطوراً بفضل تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد، والبرمجيات التي تحاكي الملصقات الأصلية.
ويواجه فريق التحقق في «فيستيار» تحديات يومية في تمييز الحقيقي من المزيف، خصوصاً مع لجوء المزورين إلى تقديم فواتير زائفة، أو استخدام مواد متقنة يصعب تمييزها حتى من قبل الخبراء. وهذا يدفع بالشركة إلى تكثيف الاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي يدخل ساحة الحرب
ورداً على تزايد السلع المزيفة، استثمرت «فيستيار كوليكتيف» في أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة يمكنها تحليل تفاصيل دقيقة جداً في المنتجات، مثل نوعية الخياطة، وألوان البطانة، وحتى نمط الموجات الصوتية الصادرة عن سحّابات الحقائب. كما تم دمج تقنيات تعلم الآلة (Machine Learning) في عملية الفرز المبدئي، بحيث يمكن للنظام تصنيف المنتجات العالية الخطورة تلقائياً لإخضاعها لمراجعة بشرية دقيقة.
لكن الذكاء الاصطناعي وحده لا يكفي. لذلك، تعتمد المنصة على شبكة من المتخصصين الموزعين جغرافياً في مراكز التحقق حول العالم، خصوصاً في باريس ونيويورك وهونغ كونغ، حيث يخضع كل منتج لعملية فحص يدوي دقيقة قبل أن يُشحن إلى المشتري.
ثقافة المستهلك والوعي بالخطر
وإحدى المفارقات التي أوردها التقرير، هي أن بعض المستهلكين يدركون تماماً أنهم يشترون منتجات «مماثلة» للأصل، وربما لا يهتمون كثيراً بالأصالة بقدر ما يهمهم المظهر الخارجي أو السعر. وهنا تكمن مشكلة أعمق: هل المسؤولية تقع فقط على المنصة، أم على المستهلك أيضاً؟
تعاني «فيستيار» ضغوطاً للحفاظ على سمعتها، في وقت تتزايد فيه التوقعات بتوفير ضمان مطلق على كل منتج. ولهذا بدأت المنصة بإطلاق ما يُعرف ب«شهادة الأصالة الرقمية»، وهي وثيقة إلكترونية مشفّرة ترفق مع كل منتج تم التحقق منه، لتمنح المشترين طبقة إضافية من الثقة.
منافسة شرسة في سوق مستعر
لم تعد «فيستيار» وحدها في هذا المضمار، فاللاعبون الآخرون مثل منصات «ذا ريل ريل» و«أي باي لوكشوري» و«غووت» دخلوا السباق، ولكل منهم آليات خاصة للتحقق من الأصالة. ويشهد هذا السوق حرباً تقنية وبيعية، حيث يسعى كل طرف لتقديم تجربة مستخدم أكثر سلاسة، ومصداقية أعلى.
وما يزيد الأمر تعقيداً هو دخول منصات التواصل الاجتماعي على الخط، مثل «تيك توك» و«إنستغرام»، حيث تنشط تجارة المنتجات الفاخرة بين الأفراد خارج أي رقابة أو تحقق. وتجد «فيستيار» نفسها في موقع دفاعي، تحاول فيه حماية نموذجها القائم على الثقة في عالم رقمي مفتوح على كل الاحتمالات.
شغف الموضة وجاذبية الأسعار
على الرغم من التحديات، لا تزال التوقعات تشير إلى نمو هائل في قطاع إعادة بيع الأزياء الفاخرة. وتشير التقديرات إلى أن هذا السوق قد يتجاوز حاجز ال100 مليار دولار بحلول عام 2030، مع ازدياد وعي المستهلكين بأهمية الاستدامة.كما تدرك «فيستيار كوليكتيف» أن النجاح في هذا المجال لا يعتمد فقط على عدد المنتجات المبيعة، بل على القدرة على بناء علاقة موثوقة مع كل من البائع والمشتري. ولهذا فهي تسير نحو المستقبل مسلحة بالتكنولوجيا، والشفافية، والتحليل الدقيق لكل منتج يمر عبر منصتها.وما بين شغف الموضة، وجاذبية السعر، والاستدامة البيئية، يقف سوق الأزياء الفاخرة المستعملة عند مفترق طرق حساس. ومع انتشار المنتجات المزيفة، تواجه منصات مثل «فيستيار كوليكتيف» معركة مستمرة للحفاظ على نزاهة التجارة وثقة المستخدمين. لكن إن استطاعت المزج بذكاء بين التقنية والخبرة البشرية والشفافية، فإنها قد تصبح مرجعاً عالمياً في كيفية مواجهة التزييف في العصر الرقمي.
0 تعليق