محمد العريان*
شهدت البيئة الاقتصادية العالمية تغيّراً جذرياً بالنسبة لكثير من الدول النامية، التي تسعى لتجاوز عقبات عدة، مثل تباطؤ في النمو، وتعطّل سلاسل الإمداد، وتقلّص تدفقات المساعدات، فضلاً عن ازدياد تقلبات الأسواق المالية. وتقف خلف ذلك إعادة هيكلة شاملة للنظام الاقتصادي والمالي العالمي، لما بعد الحرب العالمية الثانية، يقودها العالم المتقدم. وفي ظل هذا التحول، برزت عوامل محددة أصبحت حاسمة لمستقبل الدول النامية ولدور المؤسسات الدولية.
وخلال معظم الفترة، التي أعقبت الحرب، عمل النظام العالمي وفق نموذج «المركز والأطراف»، حيث تقف الولايات المتحدة في قلبه، مقدّمة ما يشبه «المنافع العامة» للعالم، من قيادة التنسيق السياسي الدولي، إلى إدارة الأزمات، وفق قواعد ومعايير متفق عليها، بهدف تحقيق التقارب في نهاية المطاف، لتأسيس اقتصاد عالمي أكثر تكاملاً وازدهاراً.
تعرض هذا النظام للتآكل، بفعل ثلاثة عوامل أساسية.
أولاً، تجاهل التبعات التوزيعية المتزايدة لعدم المساواة، ما أدى إلى شعور قطاعات واسعة بالتهميش وفقدان الثقة، وتحويل الاقتصاد إلى تابع للسياسة لا العكس.
ثانياً، عجز النظام عن دمج الاقتصادات النامية الكبرى سريعة التوسع، وعلى رأسها الصين، التي ولّد حجم اقتصادها الهائل، مع انخفاض نصيب الفرد من الدخل، فجوة بين أولوياتها التنموية ومسؤولياتها العالمية، ما أفرز توترات استعصى حلها على آليات الحوكمة الدولية.
ثالثاً، تحول الولايات المتحدة من قوة استقرار إلى مصدر للتقلبات، بدءاً من أزمة 2008 المالية، مروراً باستخدام التعريفات الجمركية كسلاح ضد الصين في 2018، وتوسيع العقوبات على أنظمة الدفع، وصولاً إلى إخفاق التوزيع العالمي العادل للقاح «كوفيد-19». وبين كل ذلك شهدنا تفكيك نظام المساعدات الخارجية الأمريكي، وغض الطرف حيال الأزمات الإنسانية والانتهاكات المتكررة للقانون الدولي.
اليوم، وبينما يفتقر العالم إلى بديل واضح لهذا النظام القديم، تجد الدول النامية نفسها في مسار مضطرب نحو مستقبل مُبهم المعالم. ومع ذلك، فقد أظهرت قدرة لافتة على التكيّف، بفضل إصلاحات مؤسسية ومكاسب سياسية في إدارة الاقتصاد الكلي خلال العقود الماضية.
للحفاظ على هذا الزخم في بيئة خارجية تزداد تعقيداً، يجب على البلدان النامية الالتزام بأربع أولويات كبرى:
أولاً: صون الاستقرار الاقتصادي الكلي مع معالجة مواطن الضعف الهيكلية والمالية، مثل هشاشة الأسواق المحلية، وضعف الأطر الرقابية، وثغرات الحوكمة.
ثانياً: تدعيم الروابط الدولية التي تعزز المرونة وتوسع الخيارات المتاحة، وذلك عبر جهود منسقة طويلة الأمد لمواءمة اللوائح، وتعزيز التكامل المالي الإقليمي، وبناء البنية التحتية التجارية.
ثالثاً: استثمار الفرص التي تتيحها الابتكارات، وخاصة الذكاء الاصطناعي، لما له من قدرة على إحداث نقلة في الطب والتعليم والزراعة، بما قد يسمح بتجاوز مراحل تقليدية من التنمية. ويتطلب ذلك استثماراً في البنية الرقمية، وبناء قوة عاملة ماهرة، ووضع بيئة تنظيمية تشجع الابتكار.
رابعاً: إعادة النظر في إدارة الاحتياطيات المالية لهذه الدول، واعتمادها التقليدي على الولايات المتحدة. مع تنويع الأصول، وتبنّي استراتيجيات استثمارية تتجاوز الملاذات التقليدية الآمنة.
هنا، يبرز الدور الحيوي للمؤسسات متعددة الأطراف، كالبنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية، لمساندة هذه الجهود عبر توفير الخبرة، ونشر أفضل الممارسات، وتبنّي أحدث التقنيات في الصحة والتعليم والإنتاجية. كما ينبغي لهذه المؤسسات تشجيع المشاريع الإقليمية، التي تسهّل التجارة وتوسع البنية التحتية العابرة للحدود، وتدعم إدارة الموارد المشتركة، مع تطوير أدوات التمويل الطارئ لمواجهة الصدمات.
وفي الدول الهشة، التي تعاني ضعف الحوكمة والأمن، يجب التفكير خارج القوالب التقليدية، لأن النماذج التنموية المعتادة تفشل غالباً هناك.
إن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة تمنح الدول النامية فرصة تاريخية، لفتح مسارات جديدة نحو نمو اقتصادي شامل، لكن اغتنامها ليس أمراً تلقائياً. فما لم تُهيئ هذه الدول بيئة مواتية لانتشار هذه الابتكارات بكفاءة وعدالة في جميع أنحاء اقتصاداتها، فإنها تخاطر بالتخلف أكثر عن الركب، وتعميق الفجوات داخل البلدان وفيما بينها، وتسريع تفكك النظام العالمي.
* رئيس كلية كوينز في جامعة كامبريدج،
ومستشار لشركة «أليانز»
*بروجيكت سينديكيت
0 تعليق