د. جاسم المناعي*
لقد تطرقنا في مقالات سابقة الى مدى جدوى الرسوم الجمركية في علاج العجز التجاري، الذي تعانيه أمريكا. والفكرة كانت على أساس أن العجز التجاري ما هو إلا أحد أعراض مشاكل الاقتصاد الأمريكي، وليس بالضرورة المشكلة في حد ذاتها. الآن وقد تم تطبيق سياسة الرسوم الجمركية، فلعلنا نتساءل عن تأثير مثل هذه السياسة في الاقتصاد الأمريكي أولاً، وفي اقتصادات العالم بشكل عام.
بعد كر وفر، أصبحت تأثيرات الرسوم الجمركية في صادرات دول العالم إلى الأسواق الأمريكية الى حد ما معروفة الآن، فيما عدا رسوم صادرات بعض الدول، التي ما زالت خاضعة لمزيد من المفاوضات كالوضع مع الصين، الذي أعطيت فيه الفرصة لمدة 90 يوماً أخرى لمزيد من الأخذ والرد. بالطبع ليست كل الدول راضية عن هذه الرسوم خاصة دول مثل كندا والمكسيك والبرازيل وسويسرا، كما أن رسوماً عالية أيضاً فرضت على الهند، ليس لها علاقة بوضع التجارة بين الهند وأمريكا، لكن لأسباب سياسية تتعلق بشراء الهند للنفط الروسي الخاضع للمقاطعة. بالطبع ما زالت هناك محاولات من قبل بعض الدول لتخفيض هذه الرسوم، خاصة من قبل كندا والمكسيك، وبالطبع الهند أيضاً، إلا أنه بشكل عام ومهما استقرت عليه هذه الرسوم، فلن تكون بالطبع في المستوى السابق نفسه. وبغض النظر عن المستوى الذي سوف تستقر عليه هذه الرسوم في النهاية، فإنها بالتأكيد سوف تحدث تغييراً كبيراً في العلاقات التجارية بين أمريكا وبقية دول العالم.
على صعيد أمريكا، فإن هذه الرسوم سوف تؤثر في قطاعات تجارية واقتصادية عدة. أول الملاحظات في هذا الشأن هو انخفاض مستوى الواردات الى الأسواق الأمريكية، فمع الرسوم الجديدة فإن بضائع بعض المصدرين لم يعد في إمكانها المنافسة في الأسواق الأمريكية. وأدى ذلك الى عدم توافر بعض البضائع والسلع، إضافة الى محدودية الخيارات لدى المستهلك الأمريكي، مقارنة بما كان عيه الحال في السابق. إضافة الى أن البضائع التي ما زالت تصل الى أمريكا، لم تعد أسعارها كما كانت، بل إن المستهلك الأمريكي أخذ يلاحظ بعض الزيادات في الأسعار على إثر تطبيق الرسوم الجديدة. ولا بد من الإشارة الى أن تأثير الرسوم الجمركية الجديدة لم يظهر حتى الآن بشكل كامل، بسبب أن جزءاً مهماً من السلع والبضائع المعروضة، هي من الدفعات التي سبق أن وصلت الى الأسواق الأمريكية، قبل تاريخ تطبيق الرسوم الجديدة. لذلك يعتقد أن الأسعار الجديدة سوف تظهر في فترة لاحقة، مما سينعكس في شكل معدلات تضخم أعلى من المستوى الحالي. كل هذه الأمور سوف تؤثر بالطبع في تقليص حجم الاستهلاك، كما أن ذلك سوف ينعكس على تردد أصحاب الأعمال في زيادة التوظيف، وإرجاء خطط الاستثمار والتوسع الى ظروف أخرى ملائمة أكثر. على صعيد آخر فإن الرسوم الجديدة قد تدفع بعض المصدرين الى التفكير في نقل عملياتهم الإنتاجية الى داخل أمريكا، وهذا في الواقع أحد أهداف الرسوم الجمركية، التي تسعى الى جلب مزيد من الاستثمارات وعمليات الإنتاج الى داخل أمريكا، لخلق مزيد من الأعمال والوظائف لصالح الاقتصاد الأمريكي. وبدون شك أن مثل هذا الهدف قد يكون قابلاً للتحقيق، إلا أن مثل هذه المسألة لن تكون بالسهولة ولا بالبساطة الممكن تصورها، حيث إن محاولة نقل عمليات إنتاج البضائع والسلع الى داخل أمريكا، سوف يظل يحتاج الى استيراد بعض المواد الأولية والمواد الوسيطة من الخارج، والتي ستنعكس الرسوم الجمركية عليها على سعر السلعة النهائية. إضافة الى أن تكلفة الأيدي العاملة في أمريكا هي بالطبع أعلى من غيرها في دول أخرى، الأمر الذي سينتهي في المحصلة بإنتاج بضائع وسلع أمريكية الصنع، لكن بتكاليف مازالت عالية، وسيظل المستهلك الأمريكي يفتقد الى السلع والبضائع التي كانت تصل الى الأسواق الأمريكية بأسعار أفضل. وبالتالي فإن الأسواق الأمريكية لم تعد توفر خيارات عديدة كالسابق، حيث أصبح على المستهلك الأمريكي شراء احتياجاته من البضائع والسلع المنتجة محلياً بغض النظر عن جودة المنتج، وعن مستوى أسعارها. لقد أصبحت الأسواق الأمريكية أشبه بالاحتكار على عكس ما تنادي به النظرية الرأسمالية من أهمية انفتاح الأسواق، وضرورة تشجيع روح وجو المنافسة. وهذا الوضع الجديد لا يبدو أنه يختلف كثيراً عن الوضع الذي ساد، خلال العهد الشيوعي، والذي لم تكن فيه للمستهلك خيارات غير شراء المنتج المحلي، بغض النظر عن جودته أو سعره. أما على صعيد تأثير الرسوم في الاقتصاد العالمي، فتشير بعض التقارير الى احتمال انخفاض معدلات النمو الاقتصادي العالمي، كما أنه من المرجح أن ينخفض مستوى وحجم التجارة العالمية، كما أن بعض الدول خاصة تلك التي طبقت عليها رسوم جمركية عالية، يمكن أن تعمل على تخفيض اعتمادها على الأسواق الامريكية في تصريف صادراتها أي أن التعاملات التجارية لهذه الدول مع أمريكا، يمكن أن تقل بشكل ملحوظ عما كان عليه الوضع في السابق. كما أن بعض هذه الدول قد تتجه الى فرض رسوم جمركية مماثلة على الصادرات الأمريكية. أما بالنسبة لتأثير الرسوم الجمركية في منطقتنا في دول مجلس التعاون، فلا يبدو أن هناك تأثيراً كبيراً، من جراء هذه الرسوم، أولاً نظراً لمحدودية انكشاف تجارة دول المنطقة على الأسواق الأمريكية، إضافة الى أن الرسوم المطبقة على دول المنطقة هي الأقل نسبياً، مقارنة بما هو مطبق على بقية دول العالم. لكن وبدون شك، فإن تأثير الرسوم الأمريكية الجديدة سوف يحدث تغييرات مهمة وكبيرة على طبيعة العلاقات التجارية الدولية، فبدلاً من حرية التجارة، التي اتفقت عليها واستفادت منها دول العالم، على الأقل خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، من خلال عضوية وقوانين منظمة التجارة العالمية، نجد أننا الآن نتجه الى سياسات تجارية معاكسة قائمة على الحماية ومتناقضة مع مبدأ وفلسفة الاقتصاد الحر، الذي روجت له أمريكا والدول الغربية بشكل عام، على أساس حرية انتقال عناصر الإنتاج وتوطن الصناعات، وفقاً للمزايا النسبية لكل دولة وليس على أساس اعتبارات سياسية أخرى. يبدو أن الوضع الجديد يؤسس لنظام تجاري ليس بالضرورة متفقاً عليه من قبل جميع الدول المعنية، لكنه مفروض بغض النظر ولاعتبارات اكثرها سياسية لا تحظى برضا بقية الدول، ولذلك فإن استدامة مثل هذا الوضع على المدى الطويل، قد تكون محل كثير من الشك.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي
0 تعليق