د. محمد الصياد *
في 23 يناير/ كانون الثاني 2025، وقَّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً تحت عنوان «تعزيز القيادة الأمريكية في التكنولوجيا المالية الرقمية»، سوف تُنشأ بموجبه مجموعة عمل داخل المجلس الاقتصادي الوطني معنية بأسواق الأصول الرقمية، بما في ذلك العملات المشفرة، من اختصاصاتها منع المؤسسات الأمريكية من تطوير أو إصدار أو استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية، بدعوى أن العملات الرقمية للبنوك المركزية من شأنها تهديد الاستقرار المالي والخصوصية الفردية وسيادة الولايات المتحدة، ما أثار جدلاً بين الخبراء الماليين ومناصري العملات المشفرة.
كان الحزب الديمقراطي، إبَّان ولاية جو بايدن، أوعز لبنك الاحتياطي الفيدرالي لتطوير إطار محتمل حمل اسم مشروع سيدار «Project Cedar» وهو باكورة مشاريع مركز نيويورك للابتكار (NYIC)، التابع لبنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك والذي أُنشئ بالشراكة مع مركز ابتكار بنك التسويات الدولية (BISIH)، لاستكشاف الفرص ذات القيمة العالية المرتبطة بالبنوك المركزية، من خلال البحث الفني والتجريب والنماذج الأولية، لدفع التقدم في مجال الخدمات المصرفية المركزية وتعزيز عمل النظام المالي العالمي وكان من المفترض أن ينتج عن المشروع إصدار عملة رقمية للبنك المركزي (CBDC)، كأصل (Asset) رقمي، يصدره ويسيطر عليه بنك الاحتياطي الفيدرالي، مع ما يمثِّله ذلك من تمكين الحكومة الفيدرالية من معرفة كل عملية شراء تستخدم عملة رقمية للبنك المركزي، مقابل تقييد قدرة المؤسسات المالية بشكل كبير على تقديم القروض، إذ تسمح العملة الرقمية للبنك المركزي، من نواحٍ عديدة، لبنك الاحتياطي الفيدرالي، باستبدال دور البنوك كوسطاء ماليين وبالتالي منح الحكومة سلطة أكبر بكثير على الاقتصاد والتضخم وقرارات الاستثمار، بعبارة أخرى، بموجب خطة الديمقراطيين، كانت السوق المالية الحرة، والخصوصية المالية، ستتلقى ضربة قاصمة لو كانت نُفِّذت، إذ كان الاحتياطي الفيدرالي سيتوفر حينها على معرفة بكل معاملة، تتضمن عملة رقمية للبنك المركزي، أي أن الأخ الأكبر سوف يتتبع جانباً خاصاً من حياة الأمريكيين.
المشكلة اليوم في أمريكا، هي مشكلة تضاد عقائدي (أيديولوجي) حاد بين الحزبين اللذين يتقاسمان السلطة والثروة في البلاد، فبينما يدفع الديمقراطيون، أو «العولميون» (Globalists)، كما يُطلق عليهم، باتجاه إصدار عملة رقمية للبنك المركزي «Bank Digital Currency»، يرفض الجمهوريون المحافظون ذلك، بحجة أنه يصادر حرية الموطنين ويتيح للدولة تتبع مصروفاتهم وسلوكياتهم المتعلقة باستخدام النقد وبينما يدفع «العولميون» باتجاه إجراءات صارمة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، يرفض الجمهوريون المحافظون نظرية تغير المناخ من أساسها ويدافعون بشراسة من أجل مواصلة استثمار موارد البلاد من مصادر الطاقة التقليدية «Conventional energy sources» وينطبق هذا على موضوع الهجرة غير الشرعية والتكلفة الباهظة للسياسة الخارجية التوسعية وغيرها من قضايا الاقتصاد والاجتماع، التي يشكِّل حسمها وبسرعة، ضرورة حتمية لانتشال أمريكا من جمودها التنموي لمقابلة التقدم، الذي تحرزه بقية بلدان أقاليم العالم التي صارت تشكل نداً قوياً لأمريكا في أسواق التصريف والاستثمار والتجارة في العالم، في خلاف عملة البنك المركزي الرقمية، على سبيل المثال، يحذر معسكر «العولميين» من أن الولايات المتحدة، بعدم إصدارها لهذه العملة، تخاطر بالتخلف أكثر في سباق التكنولوجيا المالية ويدفعون بأن هذه الخطوة تسمح للصين والاتحاد الأوروبي بتعزيز زعامتهما في التكنولوجيا المالية.
اليوم يعمل البنك المركزي الأوروبي وبنك الشعب الصيني ومعظم البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، على تطوير عملاتها الرقمية وأنظمة مدفوعاتها، جنباً إلى جنب مع العملات المشفرة والعملات المستقرة وحتى سبتمبر/ أيلول 2024، كانت 134 دولة واتحاداً نقدياً، أي حوالي 98% من الاقتصاد العالمي، يبحثون في إصدار عملاتهم الرقمية، من بينها 66 دولة وصلت إلى مرحلة متقدمة من الاستكشاف والتطوير أو التجربة والإطلاق، بعد أن كان العدد في مايو/ أيار 2020، لا يتجاوز 35 دولة فقط وذلك بحسب بيانات المجلس الأطلسي (مركز أبحاث أمريكي) وهناك 13 دولة في مرحلة تجريبية بالفعل، في مقدمتها روسيا والبرازيل والهند وتركيا وأستراليا واليابان. بل إن جزر الباهاما وجامايكا ونيجيريا، أطلقت بالفعل عملاتها الرقمية للبنوك المركزية، لكن يبدو أن المسألة، فيما يتعلق بأمريكا، لا تقتصر على الخلافات الأيديولوجية الحادة بين أطياف النخبة الأمريكية الحاكمة وإنما يمتد ليشمل ترهل وبيرقراطية أجهزة التسيير الحكومية، فقد كانت أمريكا متأخرة عن بقية منافسيها في تطوير العملة الرقمية، حتى قبل الأمر التنفيذي لترامب.
كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي يستكشف لفترة طالت مدتها، الفوائد والمخاطر المحتملة للعملة الرقمية للبنك المركزي وأطلق رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول، منذ 2021، تصريحات متضاربة حول إصدار عملة الدولار الرقمي، تراوحت بين رفض إصدارها وبين إعلان السعي أولاً للحصول على موافقة الكونجرس، قبل إصدارها، فكان أن أقرَّ مجلس النواب مشروع قانون، في مايو 2024، يمنع الاحتياطي الفيدرالي من إطلاق عملة رقمية للبنك المركزي، لكن مجلس الشيوخ لم يوافق عليه.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية
0 تعليق