كتبت بديعة زيدان:
عُرف البحر الأبيض المتوسط بهذا الاسم، لامتداده الشاسع بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، بحيث يظهر للمبحرين فيه، بلون فاتح يميل إلى البياض، وقد يتقلب بألوانه في حال ارتفاع وتيرة الطحالب أو الهائمات البحرية، لكنّه استحال أسود في الرواية الأحدث للروائي الأردني هزاع البراري، وحملت عنوان "البحر الأسود المتوسط"، ليس لتسريب نفطي، أو لارتفاعات غير مسبوقة في الموج عكرت لونه، أو تبعاً لزلازل قريبة، بل لاعتبارات مجازية تتعلق بتحوّل هذا البحر أو اليابسة المحيطة به، إلى عنوان للمآسي والفواجع والكوارث التي لا تنتهي، خاصة لسكانه في الجغرافيات الناطقة بلغة الضاد.
ولعل من مجازات العنوان في الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، حديثاً، هو ذلك الربط البارع بين جغرافيات البحر المتوسط التي تعاني من حروب ونكبات وإبادات متواصلة منذ عقود، فـ"البحر الأسود المتوسط" الرواية، هي بالأساس سردية محبوكة بذكاء حول الحروب في المنطقة، وفي دواخل سكّانها، منذ "نكبة" العام 1948، مروراً بـ"نكسة" 1967، والحرب الأهلية اللبنانية، والحرب في ليبيا، وغيرها، وليس انتهاءً بزلزالي "قهرمان مرعش" و"غازي عنتاب" التوأمين.
والأسود، الذي هو لون التناقضات، يرمز للحداد وللبؤس في الدرجة الأولى، خاصة في الثقافة العربية، علاوة على كونه رمزاً للتعب وللنقصان، وللأسف والغضب أيضاً، فهو غياب للضوء، وتعبير عن غموض يتواصل، وعن عنصرية، وجميعها تنعكس في رواية البراري العابرة للأمكنة والأزمنة.
من بين شخصيات الرواية القلقة والمتشظية، يبرز الصحافي الأردني الخمسيني "كريم" الذي يوصيه والده قبيل وفاته بالتواصل مع ابنه "وليام"، ولم يكن يعرفه، بل لم يكن يعلم أن له ابنا جاء من علاقة مع سويدية التقاها لشهر واحد دون أن تخبره أنا حبلت منه.
و"كريم" هذا كان سلفيّاً فترة مراهقته، ودفع ثمن ذلك كثيراً، قبل أن يتخرّج من جامعة اليرموك الأردنية، منتصف تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم يتوجه إلى الإسكندرية حيث يرتبط بصداقة مع فلسطيني من الخليل، ليتنقل بنا السرد إلى العام 2017، حيث الصحافي الأردني وصديقة "لطفي" الروائي وطبيب الأسنان السوري في إسطنبول، وكانا التقيا للمرة الأولى في دمشق، حيث جمعهما بيت الشيخ السلفي "ظاهر الأشقر" هناك، وجمعهما كما الفلسطيني، الشتات، والتشظي، والنزوح.
ويربط "كريم" بمهامه الصحافية بين جغرافيّات البحر المتوسط، الذي استحال أسود في الرواية وفي دواخل شخوصها، فنراه في "مصراتة" الليبية يعدّ تحقيقاً صحافياً حول الهجرة غير الشرعية، ومن قضوا في أعماق البحار، ولم ينجحوا في الوصول إلى الضفة الأخرى، وهناك يلتقي الشيخ أسامة الذي يلخص محورية الرواية بقوله: "نحن شعوب البحر الأبيض تأكلنا الحروب الكثيرة، وما تبقى منّا تلتهمه الهجرات نحو ضفاف مسعورة الحواف، مسكونة بالخوف الأزلي".
وفي ذات المدينة، يسير والشيخ "أبو حذيفة" ليتلقيا وجوها ذات ملامح أفريقية، وعربية سودانية ومصرية وتونسية وشامية، يغلب عليها تضارب الأفكار والمخاوف من انتظار الرحيل عبر البحر.
و"أبو حذيفة" الذي تحوّل من طالب ليبي متفوق كان قد ارتمى في أحضان الشيوعية ببيروت، قبل أن يعود إخوانيّاً إلى بلاده ما بعد "الربيع العربي"، ومن ثم بحّاراً ينقل المهاجرين غير الشرعيين في قوارب الموت، هو الذي وجد نفسه في الفراغ مُجدداً مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار بيروت الدموي، والأحداث الكبرى التي رافقت كل ذلك، ونتجت عنه.
وهنا تحضر فلسطين عبر ثورتها في بيروت، من خلال ذكريات "أبو حذيفة"، فنراه يستعيد شيئاً من يوميّات عقود خلت، مستذكراً: قال لنا الرفاق الكبار في الحزب إن حرباً كبيرة قادمة، وإن انتصار قوى الحق والعدالة حتمي على طغيان الغرب وأعوانه.. لم أمسك سلاحاً يوماً، أخذونا إلى مخيم تدريب قرب "النبطية"، كان تدريباً بسيطاً وعجولاً، حفظنا من أهازيج الشجاعة والنصر أكثر من حصص التدريب، وحظيت بقطعة "كلاشينكوف" رائعة، بعدها نقلونا إلى منطقة "تل شلعبون" في الجنوب اللبناني على تخوم مناطق جيش "لحد"، ومن خلفها قرى شمال فلسطين، وبالقرب منا منطقة "المغاور" التي تواجدت فيها قوات محترفة تابعة لحركة "فتح"، ومنطقة "الطيرة" التي تمركزت فيها مدفعية تابعة للجبهة الديمقراطية.. لم يكن أحد منا في ذلك العمر يخشى الموت، كلنا كنا نفكر في النصر، بشكل الحياة بعد النصر المحتم، وأن الأرض ستصبح أجمل والأوطان وطناً واحداً من حلم، لكن المعركة الهمجية قامت بعد يوم من قيام دلال مغربي بقيادة عملية "كمال عدوان" أو عملية الساحل في فلسطين المحتلة، في شهر آذار 1978.. "بدأت الحرب الكبرى التي انتظرناها، لكنها كانت همجية وشرسة على نحو ينبت الهلع في القلوب"، معترفاً أن الحرب، وإن لم تصبه في جسده، فقد أصابته بعطب كبير في مشاعره، وأفكاره، وتصوراته، وذاكرته، بل جعلت منه معاقاً في أعماقه وقناعاته.
نمر على "وليام" ابنه المسيحي "المبتور من الحكاية" الذي يشعر وكأنه "سراب مليء بالعطش"، رغم وصوله إلى جده مستعيناً بمحرك البحث "غوغل"، و"رشا" التي التقاها "كريم"، للمرة الثانية، في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، في رحلة لقائه بابنه، بعد نقاشات بينهما حول التطرف وارتباطه بالبنية الاجتماعية والظروف العائلية والاقتصادية، عبر "مسنجر الفيسبوك"، هي الهاربة من حياتها، ووجدت حياتها القادمة متجسدة فيه.
وتكمل "رشا" شيئاً من حكايات الفدائيّين في بيروت، عبر رسائل جدها، ويتحدث فيها باقتضاب عن الوضع الصعب للمقاتلين من القوى اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، خلال اجتياح لبنان وحصار بيروت، وقصفها المتواصل بالطيران والمدفعية، هي التي عرفت من جدّتها أن الجد كان قد انضم لبعض المقاومين في حرب 1948، وسقوط يافا، ومن ثم كان اللجوء إلى مخيم "بلاطة" في نابلس، وكيف انضم إلى جماعة من المقاومين يتدربون على السلاح، لاستشعاره وإياهم أن اللجوء لن يزول إلا بالمقاومة، لينفذوا بعدها عمليات ضد قوات الاحتلال، ويصبح جد "رشا" مطارداً، حكم عليه بالإعدام غيابياً، ففر إلى عمّان، ولحقته عائلته، إلا أن كل شيء تغير بعد "نكسة" حزيران.
في "البحر الأسود المتوسط" مخيمات لا تنتهي، وموت يلحق موتاً آخر، بين زلزالين أحدهما سياسي بفعل العصابات الصهيونية في العام 1948 والآخر غضب الطبيعة في العام 2023، عبر شخصيات تأتي وأخرى تغيب، من بينهم "عساف" ابن بيت لاهيا، الذي يعود إلى غزة بعد أن تنقل في بلدان عدة، وثالثة تبقى، لعل واحدة أو واحداً ممن نجوا من الحرب تلو الأخرى أو الزلزال تلو الآخر، يحقق وصية الجد بتغيير ألوان البيت المنهوب، والحفاظ على البندقية، لذلك اللاجئ المقاوم، الذي رغم كل الصخب الذي عاشه "أكلته الوحدة حتى أنهكت روحه، وقرر أن يستريح" هناك في قرية ألمانية تبعد كثيراً عن يافا، أو لعل ناجيا آخر يكتب يوميات الدم، والطين، والموت اللزج، والجثامين، كفعل تحدٍ هو أيضاً من بين رمزيات اللون الأسود، نحو الاستدلال على "الباب الحقيقي المفتوح على الطريق"، هناك على مقربة من الغروب، وحيث كانت الريح تلقي رحالها، فلا شاطئ في متناول الرسو، ففي زمن الحرب التي لا تنتهي، يبقى الفقد اللعين ينهش البرّاني والجوّاني في نساء ورجالات رواية البراري، وفينا، فيموتون ولا يموتون، و"نموت ولا نموت".
0 تعليق