كتبت بديعة زيدان:
ما بين الأساطير والحقائق، والالتباسات الكثيرة، وما بين الفضول وشغف الترحال والاستكشاف، تأتي رواية "المسحورة" للروائية المصرية رشا سمير، والصادرة حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، لتميط اللثام عن حكايات ملتبسة حول "الأمازيغ" في "سيوة" الواحة المصرية في الصحراء الغربية بـ"مرسى مطروح"، في رحلة نحو "زررزورة"، المدينة الأسطورية المستعصية على كل شيء.
وقارئ الرواية سيكتشف مع تقليب الصفحات حجم المجهود الكبير الذي بذلته الروائية في البحث بطرق عدّة، بحيث لم تكتفِ باستقاء المعلومات واستيفائها من مصادر مكتوبة، بل أجرت بنفسها مقابلات شفوية جعلتها تقدّم رواية تدور أحداثها في العام 1926، بحيث تعود بنا، ونسير معها في رحلة مشوقة عبر الصحراء في سردية اتكأت على لغة ومصطلحات تتناسب مع زمان ومكان الأحداث، وتحمل الكثير من المفاجآت.
وتدور الحكاية حول الضابط في الجيش الإيطاني "ليوناردو"، الذي يتجسس لصالح الجيش البريطاني لحاجته إلى المال نحو ابتياع سيارة تدفعه نحو تحقيق حلمة بزيارة مدينة "زررزورة"، المدينة أو الواحة الأسطورية، والتي يعتقد كثيرون أنها ليست إلا وهماً وسراباً، لكنه يصرّ على اتباع خطى والده الذي رحل قبل الوصول إليها رغم محاولاته الكثيرة رفقة مغربي أمازيغي يدعى "جعفر"، إلا أن محاولاتهم فشلت.
من إيطاليا يتوجه إلى المغرب، خلف جبال أطلس، ليلتقي "جعفر"، وبحوزته نصف الخريطة التي ورثها عن والده، بينما نصفها الثاني بحوزة الأمازيعي، فتكتمل الخريطة، وتبدأ الرحلة إلى مصر رفقة "أنس" المغربي، الذي يمكن وصفه بمبعوث "جعفر"، وكان الوجهة واحة "سيوة"، بحثاً عن المخطوط الذي يحمل اسمها، وهو ما يكون لهما بمساعدة ثلاثة من أهالي الواحة: هم "رُحيّم"، و"تاليس"، و"مبروكة".
تقع "تاليس" في حب "ليوناردو"، إلا أنه لا يأخذ الأمر على محمل الجد، بحيث يرى فيها "فتاة صغيرة"، في حين ينجذب إلى "مبروكة" منذ أن وقع ناظراه عليها، فيحررها والآخرون من محبسها، وتنضم إليهم في رحلتهم نحو اكتشاف "زررزورة"، لكن في الوقت الذي يعثر فيه "ليوناردو" على مفتاح المدينة الأسطورية، يخدث ما يُبقي لغزها سراً.
وفي البحث نجد أن الشائعات بل الأساطير لطالما رافقت أي حديث عن "زرزورة"، التي قيل إنها تقع في عمق الصحراء غرب نهر النيل في مصر أو ليبيا، حتى أن هناك كتباً عدّة وأفلاماً حولها، ذكر بعضها أن "زرزورة مدينة في الصحراء مليئة بالكنوز مع ملك وملكة نائمين"، وأنه "يحرس المدينة عمالقة سود يمنعون أي شخص من الدخول والخروج"، وهو ما يرد في الرواية أيضاً.
ومن أول من تحدت عنها، كان عثمان النابلسي الصفدي، حاكم "الفيوم" في منتصف القرن الثالث عشر، في كتابه "تاريخ الفيوم وبلاده"، واصفاً إيّاها بأنها "واحة مليئة بالنخيل والعيون والأشجار والزيتون".
واللافت أن النابلسي المتوفى في العام 1243 للميلاد، واسمه الكامل "عثمان بن إبراهيم النابلسي الصفدي"، وحسب عديد المراجع، فلسطيني الأصل عاش بمصر، وعمل بها، حتى وصل إلى منصب حاكم الفيوم، وله كتاب في الجغرافية الإقليمية، يحمل عناوين عدّة، أشهرها "تاريخ الفيوم وبلاده"، ويعرف أيضاً بعنوان آخر هو "صنعة الحيّ القيوم في ترتيب بلاد الفيوم"، لافتاً إلى أن الكثير من قبائل المغرب العربي، استقرت في الفيوم قبل ثلاثة قرون من تأليفه لكتابه.
وكانت أول إشارة أوروبية إلى "زرزورة" في العام 1835 من قبل عالم المصريات البريطاني جون غاردنر ويلكنسون، هي التي تعززت عندما اكتُشف لاحقاً عددٌ من الواحات غير المعروفة سابقاً، وتم تسميتها باعتبارها من واحات "زرزورة"، ولكنهم لم يجدوا "زرزورة" نفسها.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، قام المستكشفون الأوروبيون برحلات في الصحراء بحثاً عن "زرزورة"، لكنهم لم ينجحوا أبدا، حتى أن المستكشف البريطاني رالف باغنولد والمجري لازلو (لاديسلاوس) ألماسي قادا رحلة استكشافية للبحث عنها في الفترة بين العامين 1929 و1930، أي بعد ثلاثة إلى أربعة أعوام من زمان السرد في "المسحورة"، وعثرا ومن لحق بهما في رحلات استكشافية أخرى على واديين ومزيد من الواحات في الصحراء النائية، وإن بقية "زررزورة" نفسها "أسطورة لا يمكن كشفها"، حسب توصيف أحدهم، وهو ما انتهت الرواية إليه أيضاً، فـ"زررزورة ليست إلا سراباً، مجرد وهم تصوّر البعض أنه موجود، سراب جرّ خلفه الرحالة، من سيجدها سيخسر.. من سيجدها سيدفع الثمن حياته، أو هكذا تقول الأسطورة"، وهو مصير "ليوناردو"، ومن قبله والده!
وكان حديث الأساطير محورياً في الرواية اللايقينية بحثاً عن المدينة التي وصل الحد ببعض الكتاب والباحثين إلى وصفها بـ"مدينة الذهب التي أخفاها عن البشر في قلب الصحراء المصرية".
فالأسطورة تقول إنه في العام "1481 عاش جمّال، وظيفته اقتياد الجِمال في الصحراء، كان يُدعى حميد كيلة، جاء مع قافلة جابت البلاد في رحلة من نهر النيل إلى الواحات الداخلية والخارجية، في رحلة أخيرة مع قافلة من الرحّالة، هبت عاصفة رملية جامحة عليهم من كل حدب وصوب لتشتتهم، تلك العاصفة قتلت كلّ من كان بالقافلة ما عدا حميد كيلة الذي نجا بأعجوبة عندما احتمى بجثة جمله.. بعد أن هدأت العاصفة، خرج الرجل من جثة الجمل مذهولاً ليجد نفسه أمام تحدٍ أكبر، وهو عدم وجود ماء معه ليستكمل المسيرة، بل وقد غيّرت العاصفة كل المعالم المعروفة لديه عن المكان الذي كان فيه، فبات حائراً عطِشاً تائهاً.. أرسل إليه القدر مجموعة من الرجال الذين بدوا له في هيئة لم يعتدها.. كانوا فارعي الطول، شعرهم فاتح اللون يكاد يقترب من لون رمال الصحراء، وعيونهم زرقاء مثل البحر، يحملون سيوفاً مستقيمة غير تلك المتعارف عليها في السيوف العربية.. حملوه إلى مدينة بيضاء ووصلوا إليها عبر وادٍ ممتد بين جبلين"، ومن "هذا الوادي وصلوا إلى بوابات ضخمة تؤدي إلى داخل المدينة.. لاحظ وجود نقش كبير لطائر غريب على البوابات، وداخل المدينة رأى بيوتاً بيضاء فخمة، بها نخيل وينابيع ماء.. لم يعتد حميد الحياة طويلاً داخل المدينة وأراد العودة إلى وطنه، فانتهز أول فرصة واتته ليهرب"، وحين وصل إلى "بني غازي، وقع في يد الحراس الذي قاموا بتفتيشه ليجدوا معه جوهرة غالية في خاتم من الذهب الخالص، أخبرهم متخصص في صناعة المجوهرات أنها صناعة أوروبية بديعة وقديمة تعود إلى القرن الثاني عشر، الأغلب أنها من بقايا الصليبيين الأوروبيين الأوائل الذين فُقدوا في الصحراء، وهم في طريقهم إلى القدس أو عائدون منها، حيث تعودوا أن يقيموا في الصحراء.. أخذوا منه الخاتم، وطلبوا منه أن يأخذهم إلى هذه المدينة ليستولوا على المزيد من الذهب والمجوهرات.. ساروا وراءه أيّاماً وليالي في محاولة للعودة إلى تلك المدينة البيضاء بلا جدوى.. لم يجد لها أثراً، ولم يعد مرّة أخرى إلى الوادي".
وتقول الأسطورة أيضاً: "بالقرب من النيل البعيد، تقبع صخرة من الحجر الجيري، روى أحد الأجداد أنه يوجد بها كهف ونفق، وأن البحث عن هذا النفق يؤدي إلى كنز من الماس والزمرد والياقوت.. خاف الرجال أن يدخلوه بأنفسهم، وبحثوا طويلاً ليجدوا أحداً يقوم بهذه المهمة.. في ذلك الوقت كان يعيش بالجبل البعيد مشعوذ موقّر في سيوة، أقنعه أهل الواحة بالهبوط بمفرده لطرد الجن الذي قيل إنه يسكن المكان، حتى يتسنى له الوصول إلى الكنز، ولسوف يقتسمونه معه.. هبط المشعوذ ومع قنديل وقرآن وبخور.. بعد ثوانٍ قليلة ارتعد الناس الذين كانوا خلفه بالنفق ينتظرون خروجه من الحفرة، بسبب خروج أجنحة كثيرة وسحابة ضخمة من الدخان الأسود التي ظهرت نتيجة لهروب الجن من المكان.. عندما خرج المشعوذ من البئر مرتعد الفرائص، أخبرهم بأن هناك عند القاع وجد حجرة محفورة في الصخر، وفي نهايتها باب حديدي، وعندما قرأ القرآن فتح الباب، وخرج منه اثنان من الجن وهربا في النفق، لتظهر خلفهما أنثى جن بأجنحة ضخمة، أمرته بالرحيل وتحذير الآخرين من زيارة هذا المكان.. مَن سيجد هذا الكنز سيقدم حياته ثمناً له".
وفي رحلة الأساطير هذه داخل "سيوة"، وبحثاً عن "الزررزورة"، تذهب بنا رشا سمير في "المسحورة"، إلى تأويلات عدّة، ليس من بينها حصراً، أن أكثر من "زررزورة" ربّما صُنعت حد أسطرتها لإشغال الناس، في قارات العالم المختلفة، كوسيلة من المُستعمِر القديم ونظيره الجديد، أو الآني، في استغلال ضعف أصحاب الأرض الأصلانيين، أو شاغليها، أمام سطوة المجهول، والغيبي، بدرجة أولى، ليقعوا في أفخاخ الأساطير المغلفة بالسِّيَر والنصوص بأنواعها المختلفة، وليس بعيداً عن مغناطيسية الذهب، والكنوز التي قد تكون في جلّها سرابيّة، ومحض اختلاق في بحث عن "زررزورتهم"، التي هي "الجنة المفقودة"، بينما تتسرب من بين أياديهم، ومن تحت أقدامهم جنانهم الفعلية المليئة بكنوز الطبيعة المتوجهة، والتي تتلون بالأسود، والأخضر، والأحمر، والأزرق، والأصفر أيضاً، وهي ملك لهم، أو كانت لآبائهم أو أجدادهم!
0 تعليق