حاوره زياد خداش:
صحوتُ على القصة القصيرة، فوجدتُ إبراهيم جوهر يقف قربها يُحدّثها وتحدثه، أحببت أن أقف معه، فوجدتني قصيراً، فواصلت طريقي إلى أن تكبر قامتي.. إبراهيم قاص مقدسي ماهر، ومتفرّد، لغته قادمة من جعبة مدرّس لغة عربية خبير، لكنه يلعب بها بعيداً عن صرامة قانون اللغة وكليشيّاتها.. له إصدارات عديدة في الإبداع القصصي والأهم في النقد الأدبي، لا "يرحم" إبراهيم ولا يجامل، وحين جاء عالم "الفيسبوك"، اعتلاه، وراح يصهل فوقه صهلاته الصريحة.. هنا دردشة معه:
* حين صحوت على عالم القص كانت نماذجي عزت غزاوي، وأكرم هنية، وإبراهيم جوهر، ومحمود شقير، وزكي العيلة، وعمر حمش.. سؤالي: حين تنظر إلى الوراء طويلا. ماذا ترى؟
- بالتأكيد أنظر إلى ذاك الوراء الذي مضى وانقضى، ولا خير في من لا يرى الذي كان لأنه يحمل الحاضر والمستقبل.. هي مرحلة لها ما لها، وعليها ما عليها.
تلك المرحلة التي أراها وأعنيها، هي حقبة سبعينيات القرن الماضي.. حقبة النهوض والآمال العالية والنشاط والتمسك بمنظمة التحرير كهوية جامعة وعنوان قضية وأمل شعب، وقدوة للشباب أيضاً.. هذا كله انعكس على كتاباتنا، وأنشطتنا، ومؤتمراتنا الأدبية، والثقافية، والفنية.
كانت القصة القصيرة عنوان النشاط الأدبي الأكثر بروزاً وتأثيراً ومتابعة، إلى جانب القصيدة الشعرية والزجل الفولكلوري الذي حمل رسالة القضية حين كان يقال في المعتقلات وفي المهرجانات وحتى الأعراس.
كان الصوت الوطني المنتمي هو الأبرز، وهو الوحيد السائد، وكانت الجبهة الوطنية وممثلوها المنتخبون في رئاسة البلديات هم قادة المرحلة وعنوانها، إلى جانب القيادة خارج الوطن.. لذا كتب الكتّاب مستندين إلى لهب المرحلة، لذا اختفت أصوات اليأس والإحباط والخيانة والنكوص، ولوحقت "روابط القرى" حتى ماتت بفعل الإيمان العالي بالقضية الوطنية والتحرر.. وحين أقارن اليوم بتلك الشعلة المتوقدة أحزن وأبكي.
* كنتَ مرّة مذيعاً لبرنامج بعنوان "قصة فلسطين القصيرة".. كنت تقرأ للشابات والشبّان وتشجعهم.. لكن لا يختار القراء في معارض الكتب القصص القصيرة ويركضون إلى الرواية.. بالعامية الدارجة "ليش حيط القصة واطي يا إبراهيم"؟
- إنها الموضة يا زياد.. الموضة لا أكثر ولا أقل. روّج المروّجون للرواية ونظّموا مسابقات وجوائز ثمينة لها، فاتّبع الشبان والقراء هذا الاتجاه الذي أشاروا لهم إليه.. أوافقك القول، إن الرواية عالم قائم بذاته مكتمل الأركان ينقل التاريخ والجغرافيا والناس وقضايا الحياة والفكر والفلسفة والصراع، لكن تبقى الجوائز مشغولة بأهداف أخرى قد لا تكون بريئة.
باختصار القصة القصيرة وأخواتها المتوالدات عنها، هي الأكثر مناسبة لعصر السرعة، ولجيل لا يقرأ طويلاً.
* يتقدم بك السن يا إبراهيم، لكن روحك ما زالت وثّابة، ولغتك السردية مجنونة.. شباب اللغة رغم شيخوخة الجسد، كيف يمكن الحصول على ذلك؟
- هذه وصفة يصعب نقلها إلى الآخرين.. إنها نتيجة تجارب ومعارف وأصدقاء من الكتب والكتّاب والانخراط في العمل الجماهيري والاقتراب من الشباب بالتعليم والمصاحبة، ومن تحسّس شغف الناس، هي باختصار شديد: روح خاصة، وبصمة لكل كاتب أعدته اللغة التي يسعى، لتكون مكثفة ومعبّرة بخصوصية خاصة بصاحبها.
* أنت من سكان القدس، ولك فيها تجارب حياة متنوعة.. كيف ترى صورة القدس في نص الأدباء العرب؟ وفي نصوص الفلسطينيين؟ وهل توافق عادل الأسطة في التفريق بين من يكتب عن القدس وقد عاش فيها، ومن لم يعش فيها؟
- القدس قضية ظلت غائبة عن الاهتمام لأنها كانت، ضمن الهم العام، جزءاً من تاريخ وجغرافيا، وحين التفت الأدباء إلى مكانتها كونها بؤرة الصراع والرواية راحوا يكتبون لها وعنها لتبقى حاضرة في الوجدان والصفحات والأذهان.. الحقيقة المغيبة هي في كون القدس قضية العرب والمسلمين أينما كانوا وليس الفلسطينيين وحدهم، لكن السياسة العربية العاجزة اكتفت بأهل القدس الفلسطينيين للدفاع عنها وإعلاء قضيتها، وانسحبوا خائفين خائبين عاجزين مكتفين بما يقام من مؤتمرات أو حملات دعم وإغاثة، وكأنهم يغيثون شعباً آخر ليس من دمهم وتاريخهم ولحمهم.
أرى أن الدكتور عادل الأسطة، الناقد المواظب المتابع محقّ في تفريقه بين من يكتب عن القدس وقد عاشها وعاش فيها أكثر ومن يكتب عنها وهو يقرؤها من الخارطة السياحية أو نشرات الأخبار.. نقل المعاناة بتفاصيلها المؤثرة لا يقدر عليها سوى من اكتوى بنار التجربة.. لذا فإن أبناء الخوف والمقاومة والرحيل الدائم في قطاع غزة أصدق منا جميعنا حين يكتبون بمداد قلقهم ورعبهم ومعاناتهم.
* تقاعدت من العمل كمدرس قبل سنوات.. سنوات التعليم المتعبة هذه، ماذا أعطتك بالمقابل، غير الراتب طبعاً؟
- سنوات التعليم، أعطتني شعراً أشيب لا سواد فيه لشعرة واحدة، وقرحة في المعدة، وآلاماً في العمود الفقري، لكنها قرّبتني من الأجيال وأثّرت فيها قدر المستطاع حبّاً بالقراءة والكتابة والحياة.. التعليم مهنة عالية التأثير كبيرة الإفادة.
* ماذا فعلت بك كوابيس حرب غزة يا إبراهيم؟
- لفّعتني بالهم والعجز والتأوّه وأثارت العديد من الأسئلة.. كشفت الحرب الوحشية التدميرية الاقتلاعية عجز العرب والمسلمين والعالم.
منذ بداية الحرب التي لم يكن أحد يتوقع أن تكون بهذه الهمجية، اعتذرت لمن طلب مني أن أكتب، وقلت: سأنتظر حتى ينقشع غبار الجنون والقتل.. اليوم، لا أجرؤ على الكتابة، ولا أسمح لخيالي بالتخيل للكتابة.
أنا عاجز عن الكتابة حول هذا الجنون في هذه الحرب التي يتابعها الناس بجنون، وكأنها أصبحت روتيناً عاديّاً.. لقد تبلّدت المشاعر، وانكسرت الأقلام.
وحدهم أبناء المعاناة هناك وبناتها من يحق لهم الكتابة، ونحن، البعيدين جسدياً، القريبين عاطفياً، علينا قراءة ما يكتبون وسيكتبون.
* برأيك كيف يمكن إعادة الحياة الثقافية إلى القدس.. القدس بلا فعاليات؟
- يوجد فعاليات قليلة وخجولة، لكن القدس تنتظر المزيد.. العمل الثقافي في القدس ليس بالأمر السهل لأنه يقابل بالصد حيناً وبالمنع أحياناً وبالتجاهل أخرى.. القدس تحتاج تخطيطاً وبرمجة بعيداً عن الارتجال وعن الاحتفالات الموسمية.
تقف العديد من الحواجز أمام العمل الثقافي في القدس، منها ما هو شخصي، ومنها ما هو قائم بحكم الواقع العسكري، ومنها القوانين المتعلقة بالمدارس والأندية.
لقد غابت الأندية عن دورها الثقافي، واكتفت بكرة القدم التي تبث ثقافتها، وتبعدنا عن الثقافة التي نعنيها.
0 تعليق