كتب يوسف الشايب:
يقدّم معرض "من طين وحديد"، وأطلق في مركز خليل السكاكيني الثقافي، مساء أول من أمس، فصولاً من حياة وعمران الفلسطينيين ونتاجهم المعماري المتنوّع، عبر حقبات تاريخية عديدة، وامتداد جغرافي عابر للحدود، بحيث يحكي قصصاً عن الطين والحديد، التي تروي بدورها فصولاً من علاقة النسيج الفلسطيني بكافة شرائحه البدوية والريفية والحضرية بأرضه وما عليها من عمران، في استجابة لعوامل ثقافية وبيئية واقتصادية وسياسية عدّة.
ويمكن تقسيم المعرض التعلمي، الذي حضر في التصميم المعماري مجاوراً للتركيب الفني، إلى عشرين محوراً، يضم كل منها أقساماً عدّة تم التعبير عنها بوسائط متعددة تراوحت بين المجسّمات، والمنتجات الصوتية، والصور الفوتوغرافية، وعروض الفيديو، علاوة على التشكيلات المعمارية والخرائط التي هي أيضاً لوحات فنيّة بشكل أو بآخر، صيغت بروح البنّائين الجديد.
ومحاور "من طين وحديد"، توزعت على عنوانين عدّة، هي: "العمران الفلسطيني الشعبي"، وهو ما بناه عامة الشعب بما امتلكوا من معرفة تقليدية متوارثة عبر الأجيال، و"العمران الفلسطيني الحضري"، وتشكل نتيجة انفتاح فلسطين على الخارج في الفترة العثمانية المتأخرة، "والعمران الفلسطيني اللارسمي"، وكان نتيجة سياسات وقوانين الاستعمار الاستيطاني من تهجير ونزع ملكية ومنع تراخيص البناء واستخدام الحيز، بما فيها الحيز غير المبني، مستعرضاً رحلة فلسطين عبر عمرانها، وما حوله، ليس انتهاء بمرحلة "العمران النيوليبرالي".
ومن بين المحاور الأخرى التي فرضت نفسها في المعرض المغاير شكلاً ومضموناً: "الخابية"، و"الزينكو"، و"دامر الحديد"، و"الأواني المعدنية"، وغيرها من العناصر المرتبطة برحلة الترحال أو التهجير إلى الاستقرار، فاللاستقرار، فالترحال والتهجير مرة أخرى بحثاً عن استقرار جديد، وهكذا، ما قبل نكبة العام 1948، وما بعدها من نكبات وصولاً إلى حرب الإبادة في غزة، والاستباحة والتهويد في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
وكان ثمة حضور خاص للعنزة السوداء في الحيز البدوي، باعتبارها جزءاً محورياً من الحياة البدوية في فلسطين، بفعل قدرتها الفائقة على التكيف مع الظروف البيئة الصعبة، بحيث تعد رمزاً للحياة المتجددة باعتبارها الأكثر انتاجاً للحليب مقارنة بغيرها من أنواع الماعز، مع نسبة أقل بكثير من المأكل.
وكان لافتاً أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرضت قانون "العنزة السوداء" في العام 1950، بعد أن انقضت قطعان الماعز الأسود البدوية الفلسطينية على أغراس شجيرات صنوبر للصندوق القومي اليهودي، ما بعد النكبة، في إطار مشروع هدف إلى محو مئات القرى الفلسطينية المهجرة، وسد الطريق نهائياً أمام عودة اللاجئين إلى ديارهم "تهريباً"، فسن الكنيست الإسرائيلي هذا القانون الذي حظر تربية ورعي الماعز الأسود الفلسطيني بذريعة إضراره بالبيئة وتسببه بالتصحر وتدمير الغطاء النباتي، في حين كان يساهم بشكل محوري في محاصرة الوجود البدوي الفلسطيني.
وكان لسكة الحديد تكويناتها اللافتة في المعرض على امتداد جدران غرف قاعات مركز خليل السكاكيني الثقافي، بوصفها بنية تحتية تتيح الوصول السريع في الجغرافيا المحلية والإقليمية والعالمية، بحيث أدت إلى تحفيز تغيّرات اجتماعية، وبلورة هوية حضرية حديثة في فلسطين، كان من بينها خط "حيفا – درعا" البالغ طوله حوالي 160 كيلومترا، وافتتح في 15 تشرين الأول 1906، ما جعل فلسطين متصلة بخط سكة الحجاز العثماني، وهو المشروع الضخم الذي بادر إليه السلطان عبد الحميد الثاني، لتسهيل نقل الحجاج المسلمين من مكة المكرمة والأماكن الإسلامية المقدسة إلى فلسطين، وصولاً إلى القدس عبر خط "يافا – القدس"، وكان الأول في الجغرافيا الفلسطينية، حيث أنشيء بعد حصول الفرنسي يوسف نافون على امتياز القطار في العام 1988 من العثمانيين، وافتتح رسمياً في العام 1892، بهدف نقل الحجاج المسيحيين والتوراتيين الغربيين من ميناء يافا إلى القدس، ما ساهم في بث روح حداثية في المدينتين، وهو ما كان في حيفا لاحقاً، ومن ثم في بئر السبع.
وأشارت قيّمة المعرض المعمارية والباحثة والأكاديمية لانا جودة، إلى أن "من طين وحديد"، يلقي الضوء على فصول مختارة من تاريخ العمران في فلسطين، والممتد على آلاف السنين، عبر مسار تعلمي وبحثي انطلق في صيف العام 2024، حيث اجتمع فريق المعرض من معماريّين لقراءة مراجع فلسطينية عن المدن والقرى والمخيمات، والبحث فيها، ضمن أطر تتقاطع فيها الدراسات المعمارية العمرانية مع الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع والعلوم الإنسانية الأخرى، لافتة إلى أن سلسلة من الندوات التي تستضيف باحثين ومختصين ترافق المعرض.
جدير بالذكر أن فريق المشروع يتكون من: بتول حرب، وأمل حجاج، وتوبة الشيخ قاسم، وليلى طاهر، وليان عاروري، وباسل ناصر، وزينة نضال، ودالا نوباني، ودالية ياسين، بالإضافة إلى لانا جودة.
0 تعليق