"ورثة الصمت" لعبير إسبر.. ويتحول "شهريار" سارداً لحكايات "شهرزادات العائلة"! - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كتبت بديعة زيدان:

المنفى هو المحور الأول لرواية "ورثة الصمت" للسورية عبير داغر إسبر، الصادرة عن "نوفل" دمغة الناشر هاشيت أنطوان في بيروت، عبر قص حكايات متداخلة لمهاجرين ومن حولهم في الإطار العائلي، طارحة أزمة الهوية لكلّ منهم، وكاشفة دون مواربة، وبجرأة تلامس الفضح عن مناطق مجهولة في حيواتهم، خاصة في "الغربة الباردة" التي لا تبدو معها عودة، ففي "الرحيل، تتناسل الأمكنة، تفرد المرافئ والمطارات أذرعها وتبتلع الراحلين قبل أن تلفظهم في صقيع المدن"، أو في البلاد التي لم يفارقوها أو تفارقهم، روحاً وذاكرة.
أما المحور الثاني الذي لا يمكن تجاوزه، فيكمن في "الطائفية"، على المستوى السياسي، والديني، والاجتماعي، والذي تواصل لعقود في زمن "سورية الأسد"، وانعكاساتها على شخوص الرواية في أحداث ثمانينيات القرن الماضي، وفي ثورة العام 2011، وما قبلهما وما تلاهما، ما يجعل من تشابكات الهوية والحكايات السورية، وأسئلتها المتداخلة موضوع "ورثة الصمت" الجوهري، خاصة ما يتعلق بامتزاج دماء المتحاربين من طوائف الفسيفساء السورية، في تكوين الأبناء الجدد لها، عبر الزيجات المختلطة، وإن لم يخرج هذا الجيل الجديد من البحث عن كينونتهم، البعيدة عن الهتافات الجديدة "واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد"، وهو الأمل الذي لم ينجُ من الأفخاخ الكثيرة، والنوايا الضبابيّة بعد.
وتلاحق الرواية السيرة المتشعبة لعائلة المقدسي السورية المسيحية، متتبعة مصائر نسائها خاصة، من ريف حمص إلى مونتريال، كقصّاصة أثر، تمارس التجسس على ما خفي من حكاياتهن، وتنقلها إلى القارئ، بعد بحث يشارك فيها مُقلب الصفحات الروائية، شيئاً من أسرارها، التي تتأتى على لسان الشقيق والأب والابن والأخ "سامي"، ويلعب دور "شهرزاد" الذي عادة ما ارتبط بتلك الشخصية النسوية الشهيرة في "ألف ليلة وليلة"، التي تعمل على الترفيه عن الحاكم "شهريار" بالحكايا، حتى يدهمه النعاس، ويختلط ضوء النهار بسواد ليل طال، كما هو حال سورية المأساوي.
وتقلب إسبر الأدوار، ليتحول "شهريار" سارداً لحكايات "شهرزادات العائلة"، في قصص تتداخل على مدار ما يزيد على نصف قرن، طارحاً، عبرهن، الكثير من الأسئلة الجدلية ذات البعد الوجودي، والمفاهيم، المرتبطة بالتابوهات في العديد من المحاور، وبشكل غير مرتّب زمنياً، ومتشعب مكانياً، ما بين أمه "فكتوريا"، وجدته "ماريا"، وكثيراً من حكايات شقيقته "نانا"، وابنته "جانو"، كما والدتها، ومن قبل ومن بعد، عشيقاته أيضاً.
يحكي "سامي" الستيني المقيم في كندا، عن عائلة مهووسة بالانتحار، كما البلاد، فشقيقته "نانا" انتحرت "لتعلن للكون أن لها الكلمة الأخيرة، وأن الموت كالحياة حدث تافه أيضاً"، هي التي كانت تزوجت من المسلم "عمر" في مجتمع لا يتسامح مع تجاوزات أو زيجات كهذه، مروراً بمحاولة انتحار ابنته "جانو" في عائلة "معتوهة مفتونة بالانتحار"، تكرّس حالة من الصمت والغموض المتوارثين، "والتفاهم الخفي بين قبائل وأمهات وجدّات"، تواطأن على "تمرير الخيبة من جيلٍ إلى جيل"، وكأنه "تلغيز الماضي بكودات شيطانية لا تفك".
وفي هذا الإطار، تأتي حكاية الجدّة "ماريا" التي لطالما رافقتها المصائب، فبعد أن ترمّلت قبل الأربعين بوفاة زوجها، فجعت بفقدان ابنها البكر "مطانيوس"، خال الراوي، شهيداً في فلسطين، خلال "حرب الخديعة والماكو أوامر، عندما خُذل الجميع، وضاعت البلاد، في حين كان حضور "فكتوريا"، أو الأم، ورغم مرضها المبكر، ساطعاً، هي التي تحدّت العائلة بإصرارها على استكمال تعليمها.
ورغم حضوره غير الطاغي في صفحات الرواية، يبقى الخال "مطانيوس" شخصية محورية فيها، خاصة لدى "سامي"، فالاثنان شاعران، وإن مات الخال صاحب الاسم الآرامي شهيداً "كما يليق بالشعراء"، وعلى أرض القداسة فلسطين، في "العام الأكثر خزياً في تاريخ البلاد، 1948".
"ولد مطانيوس عيسى داغر ليصبح حكاية، ليكون شهيداً دافع عن فلسطين، ومات ككل منذور للقداسة.. بعد رضيعين صبيّين ماتا دون سبب، نذرت ماريا صبيّها الثالث لمار مطانيوس الذي رمى قبعته في البحر ليوقف عواصفها الكانونية، تلك التي تحكم الروس الأرثوذوكس بمسارها في مدن البحر.. ومثل كل حكاية ملهمة عن الناجي الوحيد الذي أكمل طفولته حتى وصل إلى جرن المعمودية، وطُمّس بالماء، ودهن على جبهته الصليب بزيت الميرون، أتى مطانيوس على رأس ثلاث فتيات أخريات، حيث لم تجرؤ ماريا على إكمال سبحة حوّاء التي كرّت دون توقف، فارتضت من يسوعها بابن وحيد".
ولم تغفل الرواية على لسان "سامي المقدسي" الحديث عن دور القوميين السوريين المسيحيين في أربعينيات القرن الماضي، حيث كان جدّه قبل وفاته يساند القوميين السوريين بالليرات والسلاح المهرب، أما أمه "فكتوريا" فنفذت وصية أخيها الشهيد، وبقيت مفتونة بتهريب السلاح، متطلعة إلى حرية سورية الكبرى، هي التي وجد "حسن" ابن "نانا" وزوجها "عمر"، في أحداث العام 2011 ثورة يمكن أن تؤدي إلى تلك الحرية المشتهاة، كما كان والداه أيضاً، فيقرر العودة إلى حمص ليشارك فيها، حيث البلاد التي "مات أبناؤها
بعد أن فض السفاحون بكارة أحلامهم، وبعدما انتهكت المدينة بالسلاح وبالفجيعة، بالقتل وبالتعذيب"، فأتى من البلاد الباردة كما "كـل خاسر، أتـوا كإخوة اتفقوا على قتل بعضهم بعضاً، لعلهم ينسون الحلم الـذي سقط، الحلم الـذي أمسكوه مرة، وتلقفوه مثل كرة كريستالية من يد إلى يد، بحرص طفل على نجمة، فسقط وانكسر".
وكان لافتاً ذلك الربط حدّ التقمص أحياناً، ما بين الشخوص وعتبات الفصول من نصوص أسطورية، وأخرى دينية، وثالثة تراثية قصصاً وأغنيات، وأشعار عربية وغربية، ومقاطع مسرحية وشيء من روايات، بدءاً من الشاعر الفرنسي أراغون، مروراً بالشاعر والمخرج المسرحي الألماني برتولد بريخت، والمغني والمخرج البلجيكي جاك بريل، والكاتب الفرنسي شارل بيرو، والشاعر والكاتب المسرحي البريطاني شكسبير، والشاعرة الخنساء، وليس انتهاء بنص للشاعر الفلسطيني غسان زقطان جاء في مطلعه "عشرون بنتاً سيعبرون من بيت جالا إلى الدير، حيث الغريبة عن أهلها، جدّتي، تشتري ما أحبّتْ، وترسل منديلها للحكاية، أبيض من فتنة الصبر"، والنص الدرويشي: "في الرحيل الكبير أحبك أكثر، عما قليل تقفلين المدينة.. لا قلب لي في يديك، ولا درب يحملني.. في الرحيل الكبير، أحبّكِ أكثر (...) فاقتليني على مهل، كي أقول أحبكِ أكثر ممّا قلت قبل الرحيل الكبير.. أحبّكِ.. لا شيء يوجعني، لا الهواء ولا الماء.. ولا حبق في صباحاتك، لا زنبق في مسائك يوجعني بعد هذا الرحيل".

 

0 تعليق