باب الفرج في دمشق.. نافذة المدينة على الرجاء ومعلم ناطق بهندسة الهوية - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في أطراف دمشق القديمة حيث تنكسر الأسوار أمام ضوء بردى وتشرع المدينة قلبها للشمال الغربي، يقف باب الفرج شاهدا بصمت مهيب على تقاطعات الزمن وعبور القوافل، وعلى الأزمنة التي مرت وتركت ظلها على الحجارة والجدران.

ورغم أنه ليس من الأبواب السبعة الرومانية الأصلية التي حمت المدينة منذ عصورها الوثنية، فإن باب الفرج يعد واحدا من أهم الإضافات الإسلامية إلى البنية الدفاعية والجمالية لدمشق القديمة، وقد ظل يحمل دلالته العميقة، الفرج، وهو هنا ليس فكرة ظرفية، بل رجاء مديني طويل لا يخبو.

أولا: الجذور التاريخية والإنشائية

أنشئ باب الفرج في عهد نور الدين محمود زنكي في القرن السادس الهجري الموافق للقرن الثاني عشر الميلادي، وتحديدا عام 1154م، حين احتاجت المدينة إلى منفذ إضافي يتصل بالجهة الشمالية الغربية التي باتت تضج بالعمران والأنشطة التجارية.

وقد جاء بناء الباب في سياق إستراتيجي، إذ كانت دمشق في ذلك العهد تشهد تحولات عمرانية كبرى، ترافقت مع إعادة تنظيم الدفاعات الحضرية للمدينة، فكان تشييد الباب جزءا من سياسة تحصينية موسعة أراد من خلالها نور الدين تعزيز المنظومة الأمنية دون التفريط بالاتساع العمراني.

وقد صمم هذا الباب بأسلوب معماري إسلامي متميز، يختلف عن الطراز الروماني الذي صنعت به الأبواب القديمة، فهو لا يقوم على التناسق الكلاسيكي بالأقواس الثلاثة، بل يتخذ طابعا دفاعيا مرنا، يتخلله ممر منكسر "زاوي" لتأخير المقتحمين، وتحقيق غايات تحصينية دقيقة.

ويمثل هذا الممر المنكسر تقنية معمارية دفاعية ذكية ظهرت في المدن الإسلامية المتأخرة، تقوم على فكرة "التحكم في حركة الداخلين"، حيث تجبر الجيوش المهاجمة على التباطؤ، وتعرضهم للسهام من أعلى الأبراج.

ويتكون الباب من مدخل متعرج تحرسه أبراج صغيرة مربعة الشكل، تمكّن الحرس من مراقبة الزوايا الميتة، وتمنح الخط الدفاعي امتدادا رأسيا، وهو ما يبرز التكامل بين الأبعاد الأفقية والعمودية في التصميم الإسلامي.

إعلان

وبنيت واجهاته بالحجارة الكلسية البيضاء والسوداء "الأبلق الدمشقي"، في تناوب بصري يدل على فن البناء الإسلامي الشامي في القرن الوسيط، حيث تلتقي الوظيفة بالجمال، والحماية بالرمز، فاللون في العمارة الدمشقية ليس مجرد زخرفة، بل هو منظومة دلالية تدمج الهوية بالمهابة، وتشيع إحساسا بالجاذبية البصرية والانتماء، حتى في المنشآت ذات الطبيعة العسكرية.

ويمكن القول إن باب الفرج شكّل، منذ ولادته، تحولا في الذوق العمراني الدفاعي لدمشق الإسلامية، إذ انتقل من النمط الكلاسيكي التكراري إلى نموذج يحاكي الحاجات الواقعية للمدينة المتسعة، ويراعي في الوقت نفسه جماليات العمارة المشرقية التي لا تفصل الحصن عن القصيدة، ولا الدفاع عن الدلالة.

ثانيا: التسمية والدلالة الرمزية

أطلق على الباب اسم "باب الفرج"، وهي تسمية لا تخلو من دلالات وجدانية عميقة، ففي ثقافة المشرق الفرج ليس مجرد انفراج مادي، بل هو اسم لحالة روحية تقترن برفع البلاء، وتبدل الحال واستقبال النور بعد طول احتباس.

وهذا الفهم الممتد لكلمة "الفرج" يتجاوز المعجم إلى بنية الوعي الجماعي الشرقي، الذي يرى في كل باب وعدا، وفي كل ممر إمكانية للانعتاق، ليس من المكان فحسب بل من الظرف والزمن والضيق الوجودي.

وقد يكون في تسميته إيحاء بأن الداخل من هذا الباب يدخل في زمن أيسر، أو يخرج من ضيق المدينة إلى رحابة الطريق، إذ يشرف الباب على منطقة كانت تمتد نحو ساحة المرجة وسوق ساروجة، وكلها مراكز تجارية وحيوية تبشر بانفتاح المدينة لا بانغلاقها.

وهذا الامتداد المكاني ليس مجرد تحول جغرافي، بل هو تحول رمزي في وظيفة المدينة نفسها، حيث تنتقل دمشق عبر هذا الباب، من الداخل العتيق إلى الخارج المتحول، من الانكماش إلى الامتداد، ومن الطمأنينة المغلقة إلى الحيوية المنفتحة.

كما أن لفظ "الفرج" اقترن في الأدبيات الإسلامية بالرجاء، وهو ما يكسب الباب أفقا تأويليا يجعله ليس مجرد ممر بل عتبة أمل معلقة في جغرافيا المدينة وتاريخها.

فالفرج في الوعي الديني والأدبي هو الوعد الذي يأتي بعد الشدة، وبهذا تكون التسمية نفسها جزءا من خطاب المدينة النفسي، كأن دمشق تتنفس من هذا الباب أملا ومستقبلا مشرقا.

إنه الباب الذي لا يفتح الجدران فحسب، بل يفتح المعنى؛ فيكون الخروج منه مشروع رجاء حضري، والدخول إليه إشعارا بأن المدينة رغم ما تعانيه، ما زالت قادرة على استقبال الضوء.

لفظ "الفرج" اقترن في الأدبيات الإسلامية بالرجاء وهو ما يكسب الباب أفقا تأويليا يجعله عتبة أمل (أرشيف-الفرنسية)

ثالثا: الموقع والوظيفة العمرانية

يقع باب الفرج في الجزء الشمالي الغربي من السور الدمشقي، ويعد نقطة وصل بين داخل المدينة القديمة وخارجها، خصوصا في الاتجاه المؤدي إلى منطقة البحصة وساروجة وسوق الخيل وساحة المرجة.

وقد شكّل هذا الموقع مفصلا حضريا بالغ الأهمية، إذ إن الجهة الغربية الشمالية من المدينة كانت دوما منطقة تمدد طبيعي للعمران الدمشقي خارج الأسوار، بفعل سهولة الانفتاح الجغرافي، وارتباطها بالمسارات الاقتصادية والزراعية المقبلة من الريف.

وقد أدى هذا الباب دورا بالغ الأهمية في ربط المدينة التجارية بالمسارات القروية والزراعية الوافدة من الغوطة الغربية، كما خدم تحركات الأهالي والأسواق في النصف الثاني من العصر الأيوبي، والعصرين المملوكي والعثماني، حيث تزايد الاعتماد على هذا الاتجاه في النشاط العمراني.

إعلان

ولا يمكن فهم هذا الدور دون الإشارة إلى أن باب الفرج أصبح بوابة للحركة اليومية النابضة بالأنشطة المتبادلة بين الداخل الدمشقي المحصن والخارج المتحول في امتداده الريفي والمديني، ما جعله أشبه بشريان اقتصادي متدفق، لا يغذي السوق فحسب، بل يمد المدينة بالحياة المتجددة.

من الناحية التحصينية شُيد الباب بحيث يصعب اقتحامه، عبر ممر زاوي منكسر، وهي خاصية هندسية إسلامية فريدة، تعكس تطور التقنيات الدفاعية مقارنة بالأبواب الرومانية ذات الطابع المستقيم المكشوف.

وقد أتاح هذا التصميم المنكسر تحقيق غايتين في آن:

الأولى: إرباك حركة الغازي وإبطاؤه داخل الممر الضيق، ما يمنح الحراس فرصة للردع والرمي من الأعلى. والثانية: إتاحة انتقال سلس وآمن للسكان المدنيين ضمن مسار طبيعي يلتف بانسياب دون أن يخلق نقاط مواجهة مكشوفة.

وبذلك، يجسد باب الفرج تلاقحا ناضجا بين الهندسة الحربية والوعي الحضري، حيث لا تفصل الوظيفة الدفاعية عن مصلحة المدينة في الاستقبال والانفتاح والتواصل.

رابعا: الأثر الثقافي والاجتماعي

لم يكن باب الفرج معبرا عسكريا فحسب، بل تحول مع الزمن إلى موضع تفاعل اجتماعي وتجاري وثقافي، يتجاوز وظيفته الدفاعية إلى حضور مركزي في ذاكرة المدينة الحية.

فقد كان هذا الباب في جوهره نافذة مفتوحة على ديناميكيات التمدن الدمشقي، حيث تلتقي طبقات المجتمع، وتتقاطع الحرف والأسواق، وتنتقل أخبار الريف والمدينة، ويعاد تعريف العلاقة بين الداخل والخارج باعتبارها علاقة تبادل واستمرار وليس حدود.

وقد نشأت حوله أسواق متخصصة شكلت امتدادا عضويا للأسواق الداخلية في المدينة القديمة، لكنها تميزت بموقعها المفتوح وهوائها الأوسع، وباتت مقصدا للتجار الذين يبحثون عن فسحة خارج الزحام، وللحرفيين الذين وجدوا في هوامش الأسوار متنفسا للإبداع والتوسع.

وفي العهد العثماني المتأخر ومع التوسع العمراني المنظم الذي شهده غرب دمشق، وضعت أسس جديدة للتخطيط الحضري تمثلت في إنشاء السرايا الحكومية، والأسواق المسقوفة، والمقاهي والمطابع والمدارس، وكلها ربطت مباشرة بمسار باب الفرج، ما جعله حاملا لأوزان جديدة من الوظيفة العمومية والمؤسساتية.

لقد تحول الباب على مدى قرون من فتحة في الجدار إلى منصة حضرية مفتوحة، ومن حاجز تحصيني إلى ممر مدني نابض بالحياة، وهو ما يفسر لماذا ارتبط اسمه في أذهان الناس بمشاعر التوسع لا الانغلاق، وبالآتي لا بالماضي، وبالممكن لا بالمخزون.

وقد لعب دوره كمخرج يفضي إلى "المدينة الجديدة" -إذا صح التعبير- التي تشكّلت غرب دمشق، فكان في نظر أهل المدينة بابا إلى المستقبل لا إلى الماضي، أي بوابة الانفتاح والحنين معا، لأنه لم يكن فقط ممرا يغادر منه الناس، بل عتبة يدخلون عبرها إلى طور جديد من العمران، والتجارة، والحركة المجتمعية.

وهكذا لم يكن باب الفرج في وعي الدمشقيين شاهدا على ما انقضى بل محركا لما هو قادم، ومرآة لطموحات المدينة حين تخرج من أسوارها توسعا وارتقاء.

خامسا: الواقع الحالي والتحديات

يعاني باب الفرج اليوم من تراجع واضح في مكانته المعمارية والحضرية، نتيجة الإهمال التراكمي من جهة، وضغوطات التحول العمراني غير المنضبط من جهة أخرى، ما أدى إلى طمس تدريجي لمعالمه، وانفصاله عن الوعي العام بوصفه أحد الرموز الحية في النسيج التاريخي الدمشقي، فبعد أن كان هذا الباب واحدا من المفاتيح الديناميكية للمدينة القديمة، وامتدادا رمزيا للعمران والتوسع بات اليوم كأنه ظل باهت لباب لم يعد يرى إلا بوصفه أطلالا عمرانية لا دورا حيا.

فالمدخل المتعرج الذي كان يجسد عبقرية العمارة الدفاعية الإسلامية تحول إلى ممر مغلق في الذاكرة المفتوحة للناس، وقد تُرك دون ترميم وأحاطت به أبنية حديثة هجينة بلا حس مكاني أو بصر عمراني، ما أدى إلى خنق البعد البصري للباب، وفصله عن سياقه الأصلي بصريا ووظيفيا.

إعلان

والمعضلة لا تكمن في تآكل الحجارة فقط، بل في انقطاع الخطاب الرمزي للباب عن المجال العام، إذ لم يدمج بفعالية في أي من البرامج السياحية المعاصرة أو المسارات التعليمية والتراثية، وبات يمر عليه العابرون كما يمرون على زاوية نائمة من التاريخ لا توقظها إلا المصادفة أو خريطة مهملة.

وما زاد حدة هذا الغياب أن المؤسسات الثقافية المعنية بالتراث العمراني لم تطور حوله أي مبادرات ثقافية أو فنية أو توعوية تعيد تفعيله بوصفه نقطة ارتكاز حضرية ذات بعد ثقافي واجتماعي، فغاب عن الفعاليات، وترك خارج فضاء التفاعل المجتمعي.

إن ما يواجهه باب الفرج لا يقتصر على الإهمال الفيزيائي بل هو تعبير عن أزمة أوسع في رؤية المدينة لنفسها، وفي إدراكها لأهمية حفظ ملامحها الرمزية باعتبارها حوامل للهوية وتماسك الذاكرة الجماعية وليست تراثا فحسب، وإذا استمر هذا المسار التراجعي فإن الباب سيفقد بصمت بطيء يفرغه من معناه، ويجعل وجوده حضورا بلا أثر، وتاريخا بلا امتداد، واسما بلا سياق.

إن ما آل إليه حال باب الفرج لا يمكن عزله عن قصور الرؤية المؤسسية المعنية بإدارة التراث الحضري في دمشق خلال العقود الماضية، حيث تداخل الإهمال الإداري بالتقصير الثقافي والتخطيط العمراني الفوضوي، فأفرغت المعالم التاريخية من وظائفها التربوية والتفاعلية، وتركت تواجه وحدها عوامل التعرية الزمنية والبصرية والرمزية.

لقد أخفقت الجهات البلدية والمؤسسات الأثرية والثقافية في التعامل مع الباب بوصفه عنصرا فاعلا في بناء الوعي المدني، فاكتفت بتصنيفه ضمن المعالم المسجلة على الورق، دون أي جهد ملموس في إحياء دوره ضمن شبكة الذاكرة المدينية، أو إدراجه في مشاريع التنمية السياحية والثقافية المستدامة.

ولم تفعل برامج الترميم إلا في نطاق ضيق وشكلي، دون دراسة معمقة لطبيعة الموقع، ودون استثمار قيمته في سياقات تعليمية أو فنية أو سياحية تخلق حوله حراكا مدنيا يعيد له الحياة، بل إن معظم الخطابات التراثية السائدة تركز على أبواب دمشق السبعة التقليدية، وتقصي الأبواب المضافة وباب الفرج في مقدمتها رغم ما تحمله من دلالات مهمة على التمدد الحضري الإسلامي، وتحولات المدينة في العصور الوسيطة.

ويضاف إلى ذلك غياب الإرادة التنسيقية بين المؤسسات المحلية "البلدية، السياحة، الثقافة، الأوقاف، التعليم"، مما منع تشكل رؤية تكاملية تحفظ التراث بوصفه حيا متجددا، يعاد تأويله وتفعيله ضمن متطلبات المدينة المعاصرة.

إن ضعف الرؤية لا ندرة الإمكانات هو ما يهدد بقاء باب الفرج في موقعه الطبيعي ضمن وجدان المدينة، فالموارد الثقافية لا تقاس بميزانيات الصيانة وحدها، بل بمستوى الفهم الحضاري الذي تدار به هذه الذاكرة الجمعية.

سادسا: توصيات للحفظ والتفعيل

لا يمكن استعادة روح باب الفرج بمجرد إصلاح حجارته أو تنظيف ممراته، بل ينبغي أن يكون المشروع المتعلق به مبادرة حضارية شاملة، تستند إلى رؤية معرفية وثقافية طويلة الأمد تعيد دمجه في الوعي الجمعي والمجال العام، والنسيج العمراني، والسردية الرمزية للمدينة. ومن هذا المنطلق، يمكن تقديم التوصيات التالية:

ترميم الباب وممراته الداخلية وفق المعايير الأثرية الأصيلة بالتعاون مع خبراء مختصين في العمارة الإسلامية والعثمانية، بما يضمن الحفاظ على تفاصيله الأصلية من دون تسطيح أو تحديث مخل، مع اعتماد مواد متوافقة مع طبيعة البناء التاريخي وتجنب استخدام الطلاءات أو الترميمات الإسمنتية الحديثة التي تشوه المعالم الأصلية. إنشاء فضاء ثقافي مفتوح حول الباب، يعيد له رمزيته الاجتماعية ويحوله إلى نقطة جذب ثقافي من خلال تنظيم مهرجانات تراثية وموسيقية ومسرحية تحت عنوان "أبواب الفرج، نوافذ المدينة"، تعرض فيها الحرف الدمشقية، والمأكولات التقليدية، وسرديات المكان، لتندمج الذاكرة بالاحتفال، والتاريخ بالناس. ربط الباب بمسار سياحي تاريخي واضح المعالم، يبدأ من باب الفرج ويتقاطع مع باب الجابية وباب الصغير في خط رمزي يشكل "هلال أبواب دمشق الغربية"، وتجهز هذه المسارات بإشارات تفاعلية، وخرائط، ولوحات فسيفسائية، تستثمر في تقنيات الوسائط المتعددة لتقديم التجربة التراثية بلغة معاصرة. توثيق تاريخ الباب وأهميته عبر دليل بصري ونصي تفسيري متعدد اللغات يوضع على مداخل الباب، يتضمن مخططات تاريخية وصورا أرشيفية وشرحا لدوره ضمن منظومة الأبواب الدمشقية، وعلاقته بمراحل التوسع الحضري للمدينة، مع إشارة إلى رمزيته في الأدب والفكر والذاكرة الشعبية. إطلاق مبادرة تعليمية مشتركة بين المدارس والجامعات تحت عنوان "باب لكل طالب"، يتم فيها تبني كل مجموعة طلابية لأحد أبواب دمشق، بحيث تشارك في دراسته ميدانيا، ورصده بصريا، وابتكار أنشطة حوله، في محاولة لردم الفجوة بين الأجيال الجديدة والمعالم القديمة.

إعلان

إن باب الفرج ليس تفصيلا عمرانيا في حكاية دمشق، بل هو مفصل وجودي في هندسة روح المدينة، وعلامة فارقة في تطور نسيجها الرمزي، ومثال حي على كيف تعيد المدينة تعريف نفسها عبر ما تضيفه إلى أسوارها، وليس ما ترثه فقط من حجارة ماضيها.

فهو الباب الذي لم يولد مع دمشق، بل ولد حين احتاجت إلى التوسع، والتهوية، والرؤية نحو الأفق المفتوح، فصار شاهدا على أن المدن لا تحتمي دائما بما بُني فيها، بل بما تجرؤ أن تضيفه حين تضيق الخيارات وتتراجع المسالك.

لقد صمد هذا الباب قرونا، وفتح ذراعيه للقوافل والسكان والتاريخ، لكنه اليوم ينتظر أن يفتح عليه النظر من جديد، ليس من أجل أن يدخل الناس منه، بل ليدخل هو في وعيهم، في سرديتهم، في خريطتهم الثقافية.

ولعل أكبر "فرج" يمكن أن تناله دمشق، في خضم ما تواجهه من فقدان لذاكرتها العمرانية، هو أن تلتفت إلى أبوابها المنسية، كما تلتفت الأم إلى طفل هامشي غفل عنه الجميع، لا لترضعه نوستالجيا بل لتمنحه حق البقاء في ذاكرتها، وهو في كامل قدره، لا في هامشها، فالأبواب التي تهملها المدن ليست التي تُغلق بل التي تنسى، وباب الفرج لا يزال واقفا في سور دمشق وفي السؤال المفتوح: هل تنقذ المدن حين تنقذ رموزها؟ أم إنها تبعث حين تدرك أن ما ينقذها حقا هو أن تتذكر نفسها؟

0 تعليق