عاجل

لماذا هذا الصِّدام المُفاجئ والغريب بين الهند وترامب؟ - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مقدمة الترجمة

منذ صعود ما يُعرف بالتحدي الصيني، دأبت الولايات المتحدة على جذب الدول الآسيوية الكُبرى إلى مدار التحالفات الأميركية في منطقة المُحيطَيْن الهندي والهادي، وكانت كلٌّ من اليابان والهند البلديْن الأهم في تلك الإستراتيجية الأميركية طيلة العشرين عاما الماضية، التي يُمكن القول إنها بدأت عام 2005، حين أبرمت واشنطن اتفاقا للتعاون النووي السِّلمي مع دلهي، فيما عُدَّ إقرارا بالبرنامج النووي الهندي الذي رفضت الولايات المتحدة الاعتراف به قبل ذلك.

ولكن مع صعود إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، يبدو أن إستراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع التحديات الدولية الماثلة أمامها تتغيَّر جذريا، وأنها تُفضِّل تقاسم النظام الدولي مع كلٍّ من روسيا والصين بطريقتها الخاصة، وتعظيم المكاسب الأميركية، لا على حساب خصومها التقليديين في موسكو وبكين، بل على حساب الدول المتوسطة والصغيرة، وهي معركة أسهل كثيرا من خوض مواجهة مع الروس والصينيين.

لم يكُن غريبا موقف إدارة ترامب المتردِّد حيال دعم أوكرانيا بشكل مفتوح، بل والتلميح صراحة بقبول صفقة مع روسيا تقضي بالإبقاء على الأراضي التي سيطرت عليها موسكو في شرق أوكرانيا، مقابل إيقاف الحرب، دون الأخذ في الاعتبار مصالح أوكرانيا أو مصالح أوروبا.

على المنوال نفسه، ركَّزت إدارة ترامب جهودها الدبلوماسية في آسيا على الشد والجذب مع الصين من أجل الوصول إلى اتفاق تجاري، في حين يبدو هناك تجاهُل للهند، بل وبرود في العلاقة غير مسبوق بعد أن قررت واشنطن تطبيق الجمارك الأعلى على الإطلاق على الهند، فيما يبدو أنه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في العلاقات الهندية-الأميركية، التي اتَّسَمت بتوتُّر شديد حتى منتصف الثمانينيات.

نص الترجمة

على مدار السنوات الخمس والعشرين الماضية، ازداد تقارُب الهند والولايات المتحدة من بعضهما بعضا أكثر من أي وقت مضى، وبنى البلدان روابط اقتصادية وإستراتيجية قوية. وقد استندت شراكتهما إلى قيم ومصالح مشتركة: فهما أكبر ديمقراطيتَيْن في العالم، وتضمُّان أطيافا من السكان متعددي الثقافات، كما أن كلا البلدين قلق بشأن صعود جار الهند الشمالي، الصين.

إعلان

ولكن في الأشهر الأربعة الماضية، خرجت هذه العلاقة التي اعتنى بها الجميع في واشنطن ودلهي عن مسارها فجأة، إذ تُهدِّد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بنسف إنجازات ربع قرن.

لقد تجاهلت تصرفات ترامب عددا من أهم شواغل السياسة الخارجية الهندية الرئيسية، متجاوزا خطوطا حمراء حسَّاسة دأبت الإدارات الأميركية السابقة على احترامها. فقد كانت الولايات المتحدة تنظر إلى الهند في السابق بوصفها شريكا أميركيا مهما في آسيا. أما اليوم، فإن الهند تواجه أعلى مُعدَّل للتعريفات الجمركية الأميركية الجديدة، وهو 50%، وهي عقوبة فيما يبدو على شراء الهند النفط الروسي بعد غزو أوكرانيا عام 2022.

تجد الهند نفسها اليوم إذن تحت وطأة جمارك أعلى حتى من تلك المفروضة على الصين، الدولة التي كانت واشنطن، على الأقل حتى وقت قريب، تريد من دلهي أن تساعد في احتوائها، بل إن ترامب يبدو أحرص على إبرام صفقة مع الصين من التراجع عن موقفه المُتشدِّد تجاه الهند. وزاد الطين بلَّة ما أعلنه ترامب في أواخر يوليو/تموز الماضي من صفقة مع الدولة الخصم للهند، باكستان، وهي صفقة تقضي بأن تعمل الولايات المتحدة على تطوير احتياطيات النفط الباكستانية.

جاءت هذه المتاعب الجمركية مباشرة بعد صدمة أخرى للنظام الهندي، وهي تدخُّل ترامب في مايو/أيار الماضي أثناء الصدام العسكري بين الهند وباكستان. فبعد بضعة أيام من الضربات التصعيدية التي تسبَّب فيها هجوم إرهابي دموي في الهند، أعلن ترامب من طرف واحد أنه توسَّط من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين البلدين.

وقد نَفَت الهند ذلك الادعاء بشدة، إذ إن دلهي لطالما قاومت أي وساطة خارجية في نزاعاتها مع إسلام آباد، وكان المسؤولون الأميركيون حريصين على عدم الإساءة إلى الحساسيات الهندية في هذه المساحة. ولكن ترامب أصرَّ على موقفه، ولا شك أنه شعر بالإهانة من النفي الهندي، تماما كما سرَّه الترحيب الفوري من باكستان بادعاءاته، وترشيحها إياه لجائزة نوبل للسلام في نهاية المطاف.

ويشعر المسؤولون الهنود بغضب شديد هذه الأيام، لكنهم يدركون أن الغضب لن يحل غالبا ما فشلت فيه الحجج العقلانية. في الوقت الحالي، قرَّرت نيودلهي انتظار مرور العاصفة، وصياغة ردودها بعناية لتجنُّب تأجيج الموقف أكثر، مع توجيه إشارات للرأي العام الهندي مفادها أنها لن تستسلم ببساطة للبيت الأبيض. إن تداعيات ضغط ترامب واستهانته بالإستراتيجية الكبرى للهند عميقة للغاية، فقد قلبت سياسة ترامب الخارجية الافتراضات الجيوسياسية الأساسية في دلهي، وزعزعت أسس الشراكة الأميركية-الهندية.

إن السياسة المُفضَّلة للهند، المتمثلة في "تعدُّد الانحيازات"، أي السعي لبناء صداقات في كل مكان مع رفض تكوين تحالفات صريحة، أثبتت عدم فعاليتها. ومع ذلك، فإن أفعال ترامب لن تدفع الهند إلى مراجعة كبرى في سياستها الخارجية.

وبدلا من ذلك، ستراقب دلهي المشهد الجيوسياسي المُتغيِّر، وعلى الأرجح ستقرر أن ما تحتاج إليه هو المزيد من العلاقات المثمرة، وليس العكس. ولحماية نفسها من تقلُّبات إدارة ترامب، لن تتخلى الهند عن تعدُّد الانحيازات، بل ستسعى إليه أكثر من أي وقت مضى، وبكل ما أوتيت من قوة.

NEW DELHI, INDIA -  FEBRUARY 25 : US President Donald Trump (L) and Indian Prime Minister Narendra Modi (R) hold a joint press conference at Hyderabad House in Delhi, India on February 25, 2020. ( İmtiyaz Khan - Anadolu Agency )
الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يسار) ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في دلهي، الهند في 25 فبراير/شباط 2020 (الأناضول)

جذور عدم الانحياز

منذ استقلالها عام 1947، اتبعت الهند في الغالب سياسة عدم الانحياز، فتجنَّبت التحالفات الرسمية، وقاومت الانجرار إلى الكُتَل المتنافسة. وقد شكَّل هذا الموقف ملامح دبلوماسيتها إلى حدٍّ كبير أثناء الحرب الباردة، لكنه بدأ يتغيَّر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حين فتحت الهند اقتصادها وسَعَت إلى تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة.

إعلان

في الوقت الحالي، يؤكد مجتمع السياسة الخارجية في الهند التزامه بـ"تعدُّد الانحيازات"، الذي يقوم على تنويع الشراكات، ورفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية، والسعي إلى نظام عالمي مُتعدِّد الأقطاب لا تُهَيمن فيه قوة عظمى واحدة أو قوتان كبيرتان، مع الاستعداد للانخراط في تعاون قائم على قضايا مُحدَّدة مع طيف واسع من الأطراف، وبشكل عابر لخطوط الصدع الجيوسياسية.

هذه السياسة مدفوعة بكلٍّ من البراغماتية والأمل في أن تتمكَّن الهند من أن تكون قطبا قائما بذاته في النظام العالمي القادم. فقد اعتقد صانعو القرار الهنود أن الاحتياجات الاقتصادية والإستراتيجية والعسكرية للبلاد لا يمكن تلبيتها عن طريق شريك واحد أو تحالف واحد، وافترضوا أن بوسع الهند الحفاظ على علاقاتها مع دول مثل إيران وروسيا مثلا، والاستمرار في العمل عن كثب مع إسرائيل والولايات المتحدة بالتوازي، ثم بناء تحالفات فيما يُسمَّى بـ"الجنوب العالمي"، مع دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، في الوقت نفسه.

وقد تخيَّلت دلهي أن واشنطن بالتحديد ستتسامح مع هذا السلوك، لأن الهند فيما يتعلق بالمنافسة مع الصين والصراع الجيوسياسي في المحيطين الهندي والهادي كانت شريكا لا غِنى عنه للولايات المتحدة.

غير أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض زعزعت أسس تلك الإستراتيجية الهندية، وتحدَّت الافتراضات الراسخة في دلهي. ومع بدء سريان الرسوم الجمركية الأميركية، سيواجه الاقتصاد الهندي ضغوطا شديدة متزايدة يُمكنها أن تبطئ وتيرة النمو الاقتصادي، كما أن العلاقات الأميركية مع باكستان، في أعقاب المواجهة العسكرية في مايو/أيار، تبدو وكأنها تتعزَّز أكثر فأكثر. والآن تشعر الهند بأنها أقل أهمية وأكثر هامشية في مشهد جيوسياسي تكاد تعجز عن فهمه وهضمه.

لقد افترضت الإستراتيجية الهندية عددا من الشروط البنيوية التي قلبها ترامب رأسا على عقب. فقد افترضت الهند، ولأسباب وجيهة، أنها تؤدي دورا محوريا في منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.

وبدا أن باكستان هامشية في هذه المواجهة الكبرى، إذ تراجع موقع إسلام آباد على الساحة الدولية بعد أن سهَّلت أجهزتها الأمنية عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان عام 2021. ورغم رفضها إدانة روسيا بعد هجومها على أوكرانيا، ظلَّت الهند شريكا مفضلا لكلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تعزَّزت القيمة الإستراتيجية للهند نتيجة رؤية واشنطن لها بوصفها قوة إقليمية مُحتَملة لموازنة نفوذ بكين.

وفَّرت الحرب الروسية على أوكرانيا للهند فرصة فريدة لإظهار سياستها في تعدُّد الانحيازات ورفع مكانتها في الجغرافيا السياسية العالمية. فقد سعت روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، وهي أطراف رئيسية في الصراع، إلى استمالة الهند.

وفي غضون ذلك، تمكَّنت الهند من الحفاظ على علاقاتها مع كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا، حتى وهي تشتري النفط الروسي بأسعار تفضيلية.

وحتى إذا تصرَّفت الولايات المتحدة أحيانا في جنوب آسيا بطرق أزعجت الهند (كما حدث مثلا حين آثرت ألا تتدخَّل لمنع الإطاحة بنظام مؤيد للهند في بنغلاديش عام 2024)، فإن المسؤولين الهنود ظلوا يعتبرون الوجود الأميركي في المنطقة مفيدا في معظمه، ودليلا على أن الولايات المتحدة ترى شبه القارة الهندية جبهة رئيسية في منافستها الكبرى مع الصين. وقد فضَّلت الهند ذلك التدخُّل المزعج أحيانا من قوة عظمى بعيدة على عدوان وطموح الهيمنة الصاعدة لقوة مجاورة.

صدمة لثوابت السياسة الهندية

عقَّدت عودة ترامب إلى البيت الأبيض جميع الافتراضات التي تحرَّكت دلهي وفقا لها. وبدلا من الاستعداد لمنافسة بين القوى العظمى، يبحث البيت الأبيض في شتى أنحاء العالم اليوم عن مكاسب قصيرة الأمد.

إعلان

ومن هذا المنظور، ترى واشنطن أن ما يمكن أن تجنيه من الصين يفوق بكثير ما يمكن أن تجنيه من الهند، وأنه يجب إنهاء الحرب في أوكرانيا لأن دعم كييف لا يستحق أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وأن مشكلات أوروبا مع روسيا هي مشكلات أوروبية لا مشكلات الولايات المتحدة. وبموجب رؤية كهذه للعالم، يتقلَّص حتما الوزن الجيوسياسي للهند.

ولنأخذ حديث الساعة في الهند على سبيل المثال: الزيادة الكبيرة في الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الهند. فقد دأبت الحكومات الهندية تقليديا على إبقاء منظومة جمارك مرتفعة لحماية التصنيع والزراعة المحليَّيْن، وتوليد الإيرادات، وإدارة الميزان التجاري.

ولطالما برَّرت الهند هذه الرسوم قائلة إنها ضرورية لاقتصادها النامي، لكن الولايات المتحدة من جهتها ليست راضية عن العجز المستمر في الميزان التجاري للسلع مع الهند، ولا عن الدعم الزراعي الهندي الذي يَحُدُّ من وصول المنتجات الأميركية إلى السوق الهندية، ولا عن المناورات الجيوسياسية الواسعة للهند، بما في ذلك عضويتها في منظمة "بريكس" (BRICS) التي تجمع عددا من الدول غير الغربية، واستمرار اعتمادها على النفط والمُعدِّات الدفاعية الروسية.

RIO DE JANEIRO, BRAZIL - JULY 6: Russia's Foreign Minister Sergey Lavrov, UAE's President Sheikh Mohamed bin Zayed al-Nahyan, Indonesia's President Prabowo Subianto, South Africa's President Cyril Ramaphosa, Brazil's President Luiz Inacio Lula da Silva, India's Prime Minister Narendra Modi, China's Premier Li Qiang, Ethiopia's Prime Minister Abiy Ahmed, Egypt's Prime Minister Mostafa Madbouly, and Iran's Foreign Minister Abbas Araghchi pose for the family photo as part of the Brics Summit 2025 at Museu de Arte Moderna on July 6, 2025 in Rio de Janeiro, Brazil. (Photo by Wagner Meier/Getty Images)
تعد عضوية الهند في منظمة "بريكس" أحد المآخذ التي ترى إدارة ترامب أن دلهي لا تستحق الأفضلية التي كانت تمنح لها من الإدارات الأميركية السابقة (غيتي)

وقد اعتادت الحكومات الأميركية السابقة التغاضي عن هذه المآخذ، مما أتاح للهند تحرير اقتصادها والانفصال عن روسيا وفق وتيرتها الخاصة، أما إدارة ترامب الحالية، فلا صبر لها على أيٍّ من ذلك.

لم يؤدِّ النهج المُعدَّل لواشنطن تجاه المنافسة بين القوى الكبرى إلى تغيير سياستها تجاه دلهي فحسب، بل أثَّر أيضا في خيارات وقرارات لاعبين كبار آخرين، وهو أمر له تداعيات كبيرة على الهند. فقد أدركت روسيا، على سبيل المثال، أن ترامب أقل التزاما بكثير بدعم أوكرانيا مقارنة ببايدن، وأقل اهتماما بالتحدي البنيوي الذي تطرحه الصين في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وأنه مُتردِّد في تقديم التزامات أمنية لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا.

وبينما استعد ترامب لقمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه ماضٍ في معاقبة الهند على شرائها النفط الروسي، وهي سياسة كانت الولايات المتحدة قد شجَّعتها في السابق. إذن، مع وجود ترامب في البيت الأبيض، باتت لدى روسيا خيارات أكثر، وأصبحت هي الأخرى أقل حاجة إلى الهند.

في الواقع، تشعر موسكو بأن التزامها تجاه دلهي يتضاءل، وهي غير مستعدة لتقديم دعم أكبر مما تتلقاه، وهو ما يفسر موقفها الفاتر أثناء صدام الهند مع باكستان في مايو/أيار الماضي. فقد كانت التصريحات الرسمية لروسيا في ذلك الوقت غامضة، فلم تذكر باكستان بالاسم، ولم تؤيد الردود العسكرية للهند، بل اكتفت بالدعوة إلى تسوية الخلافات دبلوماسيا.

بشكل ما، كرَّرت روسيا الرسائل ذاتها التي تبنَّتها الهند بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022. ومع ذلك، أثارت هذه التصريحات قلق المتابعين الهنود للشأن الروسي، الذين كانوا يتوقعون من الكرملين أن يقف إلى جانب الهند، وأن يدين باكستان، وأن يؤكد حق الهند في الرد، كما فعلت إسرائيل التي أعلنت دعما كاملا للهند.

ويُشكِّك المحللون الهنود اليوم في أن روسيا امتنعت عن ذلك لأنها لم ترغب في إغضاب الصين، التي أصبحت شريكا إستراتيجيا وثيقا لباكستان، وزوَّدتها بكمية كبيرة من الأسلحة الجديدة.

مُستقبلا، من المرجَّح أن تُعطي روسيا الأولوية لتعزيز علاقاتها مع الصين على حساب علاقتها المتدهورة مع الهند. فموسكو، وهي ترى نفسها على مشارف النصر في أوكرانيا، باتت تمتلك أولويات جديدة، إذ تسعى الآن إلى شركاء قادرين وراغبين في تحدي الولايات المتحدة وأوروبا، وليس مجرد شركاء تجاريين.

وتستطيع الصين القيام بذلك، أما الهند فتنحصر اهتماماتها في التجارة. ولذلك قد تتردَّد روسيا في دعم الهند في أي صراع مستقبلي مع باكستان، نظرا لعلاقات الصين القوية مع باكستان. وإذا كان دعم روسيا للهند مشكوكا فيه خلال صراع مع باكستان، فيُمكننا أن نفترض بطبيعة الحال أن موسكو لن تفعل الكثير لمساندة الهند في أي صراع مستقبلي مع الصين.

إن لا مبالاة ترامب النسبية تجاه جنوب آسيا ستعني حتما منح الصين حرية التحرُّك هناك، وستسعى بكين إلى ترجيح كفة ميزان القوى الإقليمي لصالحها عبر مزيج من دبلوماسية فخ الديون، والاتفاقات العسكرية، وتعزيز الروابط السياسية والدبلوماسية مع دول جنوب آسيا.

إعلان

وقد عزَّزت المعدات والخبرات الصينية القدرات العسكرية التقليدية لباكستان في مايو/أيار، وساعدت القوات الباكستانية على اختبار دفاعات الهند. إن انخراط الصين المباشر في شؤون جنوب آسيا اليوم أكثر من أي وقت مضى، كما أن صناعاتها الدفاعية ستؤدي دورا متناميا في النزاعات العسكرية المستقبلية في المنطقة.

إذا تمكَّنت الصين من التغلغل بصورة أعمق في جنوب آسيا، فسيكون لترامب الفضل في ذلك، إذ يسعى الرئيس الأميركي إلى إبرام صفقة تجارية مع الصين بينما يحاول إخضاع الهند بالقوة، وهو لا يُبدي اهتماما يُذكر بالمصير الجيوسياسي لمنطقة المحيطين الهندي والهادي في العموم، أو بجنوب آسيا على وجه الخصوص. هذا التوجُّه الغريب في سياسة ترامب الخارجية يساعد بكين على ترسيخ نفوذها في المنطقة، وهو أمر سيحدث بالطبع على حساب الهند.

أفق تعدُّد الانحيازات وحدوده

لقد كشفت الأشهر الأخيرة من الانتكاسات في السياسة الخارجية الهندية عن حدود التزام الهند بسياسة تعدُّد الانحيازات. ففي أثناء الاشتباكات الأخيرة مع باكستان، كان معظم شركاء الهند قلقين من احتمال اندلاع مواجهة نووية في جنوب آسيا، حتى وإن كان احتمالا ضئيلا جدا، أكثر من اهتمامهم بمساعدة الهند دبلوماسيا أو سياسيا أو عسكريا.

ولكن بعيدا عن المخاوف النووية، جاء رد أصدقاء الهند وشركائها على شكل حياد مشروط، وهو صدى لموقف الهند من الغزو الروسي لأوكرانيا. فموقف الهند المتمثل في عدم الانحياز لروسيا ولا لأوكرانيا، وهو موقف نابع من سياسة تعدُّد الانحيازات (مع روسيا والغرب)، لم يُرضِ روسيا ولا الحكومات الغربية، ولهذا لم يقف أحد إلى جانب الهند عندما واجهت أزمة.

لقد تخيَّلت الهند أنها ستستفيد من تنافس القوى العظمى بالمناورة بين الصين وروسيا والولايات المتحدة لصالحها. وقد نجحت في ذلك حتى تغيَّرت ديناميات هذا التنافس بشكل كبير. ورأت دلهي نفسها لاعبا محوريا في آسيا، لكن ترامب أزال هذا الوهم من أذهان المسؤولين الهنود. فقد فاجأهم هذا الشهر بفرض رسوم جمركية مرتفعة جدا، رغم اعتقادهم أن البيت الأبيض، من منطلق مصلحته، سيضع الهند دائما في الاعتبار.

ويسعى ترامب إلى عقد صفقات مع الصين وروسيا، ويُرهِب الحلفاء والأصدقاء التقليديين في الوقت نفسه، ويبدو مرتاحا لتسريع بروز نوع من الترتيب الثنائي (G-2) الذي تتقاسم فيه الولايات المتحدة والصين العالم بينهما. وفي عالم كهذا، تنخفض الأهمية الجيوسياسية للهند بشكل كبير.

هذه ليست محنة الهند وحدها. فهناك قصص مشابهة في أوروبا وفي صفوف الحلفاء المرتبطين بمعاهدات مع الولايات المتحدة في آسيا. غير أن هذا الشك المشترك تجاه الولايات المتحدة قد يداوي جراح السياسة الخارجية الهندية، إذ يمكن للهند أن تُعزِّز شراكاتها مع الدول الأوروبية والقوى الآسيوية الكبرى، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، التي تواجه هي الأخرى معضلات في موازنة علاقاتها مع جوارها بسبب عدم الثقة في إدارة ترامب.

كما يمكن أن تسعى الهند إلى تنمية علاقات أوثق مع الصين وروسيا، وعلى الأقل إظهار ذلك على الساحة الدولية. في هذا السياق، أكَّد رئيس الوزراء الهندي نارِندرا مودي مطلع هذا الشهر أن بوتين سيزور الهند في وقت لاحق من هذا العام.

لا شك أن دلهي تنظر بقلق بالغ إلى النهج التصالحي الذي تتبناه واشنطن تجاه بكين. وقد بدأت بالفعل في دراسة سُبُل تعزيز قدراتها الدفاعية، وتأمين مصادر منصات الأسلحة التي تحتاج إليها، وإقامة شراكات وسلاسل توريد موثوقة. وستتمكن الهند من اجتياز هذه العاصفة الجيوسياسية عبر دبلوماسية ماهرة وقَدْر من الصبر، غير أن هذه المرحلة المضطربة ستُخلِّف على الأرجح عدة تداعيات طويلة الأمد على السياسة الخارجية والرؤية الإستراتيجية الهندية، وستتأثر العلاقات الثنائية بين الهند والولايات المتحدة بشكل حاد.

في الواقع، العوامل الداخلية في الولايات المتحدة، التي كانت تبدو وكأنها ضامن للعلاقات الجيدة مع الهند، لم تُبطئ من تدهورها الحاد، إذ تبدو الجالية الهندية المؤثرة في الولايات المتحدة عاجزة، ولم ينجح التوافق الحزبي المزعوم المؤيد للهند في كبح ترامب، فيما ظل السياسيون وقادة الصناعة المُقرَّبون من الهند صامتين بشكل لافت.

بعد عقود من التراجع، عاد العداء لأميركا إلى الارتفاع مُجدَّدا في صفوف مجتمع السياسة الخارجية الهندي، وبالنسبة لمؤسسة السياسة الخارجية الهندية، التي تتَّسِم بثبات عنيد في التزامها بالحفاظ على الوضع القائم، فإن ترامب لغز لا حل له.

ومع ذلك، للمفارقة، من المُرجَّح أن يكون ردُّ الهند على مأزقها الحالي هو الركون إلى عاداتها القديمة. فأوجه قصور سياسة تعدُّد الانحيازات قد يدفع الهند في الواقع إلى أن تصبح أكثر تمسُّكا بهذه السياسة. وإذا لم تكن واشنطن شريكا يُمكن الاعتماد عليه والثقة به، فسوف تسعى دلهي إلى البحث عن شراكات أخرى وتعزيزها. وسيؤدي تواصل ترامب مع بكين وموسكو الآن إلى دفع الهند نحو تقليد واشنطن، ومن ثمَّ تعكِس بذلك سياستها السابقة وهي الابتعاد التدريجي عن الصين وروسيا.

لقد خضعت سياسة تعدُّد الانحيازات لاختبار ضغط جيوسياسي، وخرجت منه مُنهكَة إلى حدٍّ ما، لكنّ صانعي السياسة الخارجية في الهند لن يصلوا بالضرورة إلى استنتاج مفاده أنهم بحاجة إلى التخلي عنها، بل على العكس، سوف يَتمسَّكون بها أكثر من ذي قبل.

0 تعليق