عاجل

"تنهيدة حرية" لرولا غانم.. صرخة مكتومة في وجه الخراب! - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كتبت بديعة زيدان:

في حديقة هادئة بالعاصمة الأردنية عمّان، حيث تنجح الحفيدة "ميرا" في استدراج جدتها" سلمى" لفتح صندوق ذاكرتها الأسود.
من هنا، تنطلق رواية "تنهيدة حرية" للروائية الفلسطينية رولا غانم، في رحلة عبر الزمن، متتبعةً خيط حكاية تبدأ جذورها من النكبة، بحيث تمتد لثلاثة أجيال من النساء الفلسطينيات، وترسم بمرارة مسارات حياتهن المتقاطعة والمتشابكة، والتي طبعتها قسوة الاحتلال وظلم المجتمع وصدمات القدر.
تمثل "سلمى" الجيل الأول الذي عاش مرارة التهجير، فبعد أن هُجّرت مع زوجها من يافا في العام 1948، استقرا في مدينة رفح بقطاع غزة، تاركَين وراءهما بيتاً وأحلاماً وحياة لم تكتمل.
عاشت "سلمى" طفولة بسيطة لكنها سرعان ما تيتمت، لتجد نفسها في عمر السادسة عشرة تُزفُّ إلى رجل متزوج يكبرها بسنوات في عمّان، بعد أن أُغريت بوعود حياة أفضل وتعليم لم تره قط.
كان زواجها خدعة كبرى أدخلتها في دوامة من البخل والقمع والعنف على يد الزوج "سامي".. وبعد أن أنجبت ثلاثة أطفال: بتول، وغادة، وخالد، وفي لحظة يأس قصوى، هجرت واقعها، تاركة أطفالها لجدتهم أم والدهم، هاربة من حياة لم تعد قادرة على احتمالها، تاركة وراءها رسالة تختزل حجم ألمها.
وتنتقل الرواية لتتبع مصير الأطفال الذين أصبحوا ضحية قرار أم يائسة وأب غير مسؤول، حيث عاش الأطفال طفولة مشتتة وقاسية بين جدتهم لأبيهم، "آمنة"، وزوجة أبيهم "مريم".
"بتول"، هي الشخصية المحورية التي ترث النصيب الأكبر من الشتات، حيث تُقتلع من إخوتها وتُرسل إلى أقاربها في غزة الذين يرفضون استقبالها، لتجد نفسها في نهاية المطاف في مدينة طولكرم بالضفة الغربية، في كنف عائلة غريبة، عائلة خليل ووفاء، التي تمنحها الحب والاستقرار اللذين حُرمت منهما.
هناك، تعيش "بتول" مراهقتها، وتختبر الحب الأول مع الشاب المناضل "حمزة"، الذي ينتهي مصيره بحكم بالسجن إثر عملية فدائية، ما يحطم قلبها ويؤثر على مستقبلها الدراسي، لتتزوج لاحقًا من "هشام"، فتدخل في دوامة جديدة من المعاناة والإساءة، لكنها تنهض في النهاية لتؤسس حياتها الخاصة.
أما "غادة"، فتمثل رحلة التمرد والقوة، فبعد أن عاشت طفولة مسحوقة في خدمة زوجة أبيها وجدتها، تدرك أن الضعف لا مكان له في عالمها، لذا تتمرد على واقعها، وتتولى رعاية أخيها خالد، كما تعمل لتعيل نفسها، وتواجه والدها بجرأة.
ورغم إغراءات رجل أعمال ثري ومتزوج، تختار "غادة" طريقها الخاص، مهاجرة إلى إسبانيا لتبني مستقبلاً جديداً، بعيداً عن قيود الماضي.
الرواية الصادرة عن دار ببلومانيا للنشر في العاصمة المصرية القاهرة، وتنافس على جائزة "كتارا" للرواية العربية بوصولها إلى القائمة القصيرة (قائمة الـ"9")، تتميّز بمضمونها الاجتماعي والإنساني العميق، حيث قدّمت الروائية بانوراما واسعة لمعاناة المرأة الفلسطينية متعددة الأوجه، فهي لا تقاوم الاحتلال فحسب، بل تقاوم أيضاً الفقر، والتهميش، وسلطة المجتمع الذكوري المتمثلة في الزوج والأب والعم، بل وتطرح بجرأة قضايا اجتماعية حساسة ومؤلمة بواقعية شديدة، كزواج القاصرات، والعنف الأسري، واستغلال الأيتام، والنفاق الاجتماعي، وغير ذلك.
كما تُظهر الرواية كيف أن التهجير ليس حدثاً تاريخيّاً عابراً، بل هو شرخ عميق ومستمر يمتد أثره عبر الأجيال، فيتجسد في شكل شتات عائلي، وضياع للهوية، وحلم بالعودة لا يموت.
وتعتمد الرواية شكلاً، على بنية سردية تقليدية، وهو ما قد يمثل نقطة قوة وضعف في آن، حيث السرد متعدد الأجيال، الذي يتنقل بين حكاية الجدّة وحكايات حفيداتها، فكان نسيجاً يربط الماضي بالحاضر، ويُظهر كيف ترسم أخطاء جيلٍ مصائر الأجيال التي تليه، بلغة سهلة ومباشرة، تخدم الحكاية وتجعلها في متناول شريحة واسعة من القراء، لكنها في بعض المواضع تفتقر إلى التكثيف و/ أو العمق الفلسفي الذي قد يضيف أبعاداً أخرى للنص.
أما الحبكة فكانت غنية بالأحداث المتسارعة والمصائب المتتالية، ما يعكس قسوة الواقع، لكنه قد يصيب القارئ بالإرهاق في بعض الأحيان، في حين بدت النهاية، التي تحمل انفراجات شبه مفاجئة لبعض الشخصيات، وكأنها تنهيدة أمل ضرورية بعد رحلة طويلة من الألم، لكنها قد تكون في ذات الوقت نهاية مثالية لا تتناسب وواقعية الأحداث السابقة.
"تنهيدة حرية"، في نهاية المطاف، ليست رواية فحسب، بل وثيقة إنسانية عن الألم والمقاومة والبحث عن الخلاص، وتنهيدة طويلة تخرج من صدور نساء سُلب منهن الوطن والأمان والحب، لكنهن لم يفقدن القدرة على الحلم والنهوض من جديد. ورغم بساطة شكلها السردي، إلا أن مكمن قوتها يكمن في صدقها وجرأتها، وقدرتها على وضع القارئ في قلب حكايات شخصياتها، ليشاركهم معاناتهم، ويحتفي بلحظات انتصارهم الصغيرة، ويطلق معهم في النهاية "تنهيدة"، بحثاً عن حرية طال انتظارها، مُشكّلةً صرخةً مكتومة في وجه الخراب.

 

0 تعليق