عاجل

أنغام الكراهية.. كيف ساهمت الموسيقى في التطهير العرقي برواندا؟ - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

شهدت رواندا منذ منتصف القرن العشرين تحولات سياسية واجتماعية كبرى، تأثرت بالاستعمار الألماني والبلجيكي الذي دعم حكم التوتسي الملكي.

ومع تصاعد التمييز العرقي، اندلعت احتجاجات قادتها نخبة الهوتو بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، لتُشعل ما عُرف بـ"الثورة الاجتماعية" عام 1959.

وفي عام 1961، أُلغيت الملكية وأُعلنت الجمهورية، وانتُخب دومينيك مبونيوموتوا رئيسًا مؤقتًا، قبل أن يفوز غريغوار كاييباندا بأول انتخابات رئاسية في استفتاء رعته الأمم المتحدة، ليقود البلاد نحو الاستقلال.

عودة اللاجئين ونُذر الإبادة

منذ استقلال رواندا عام 1962، شهدت البلاد صراعات عرقية متكررة بين الهوتو والتوتسي، بدأت بعودة لاجئي التوتسي الذين فرّوا عقب وصول الهوتو إلى السلطة، وتطورت إلى مواجهات وهجمات متبادلة أدت إلى موجات لجوء جديدة.

وفي أواخر الثمانينيات، تأسست "الجبهة الوطنية الرواندية" في أوغندا بقيادة منفيين من التوتسي، بهدف العودة إلى البلاد.

وفي أكتوبر 1990، شنت الجبهة هجوما عسكريا على رواندا، قابله النظام بتصعيد خطاب الكراهية ضد التوتسي، مستخدمًا الإعلام للتحريض.

ورغم توقيع اتفاق أروشا للسلام عام 1993، ووجود بعثة أممية، استمرت أطراف متشددة من الهوتو في التخطيط لحملة إبادة استهدفت التوتسي والهوتو المعتدلين.

في 6 أبريل/نيسان 1994، شكّل إسقاط طائرة الرئيس جوفينال هابياريمانا بداية انفجار العنف في رواندا، حيث تحوّل الاتهام الموجّه للجبهة الوطنية الرواندية إلى حملة إبادة جماعية ممنهجة.

وخلال 100 يوم، قُتل نحو 800 ألف شخص، معظمهم من التوتسي، وسُجلت آلاف حالات الاغتصاب، وسط تحريض إعلامي واسع.

وبحسب الأمم المتحدة، بدأت المذابح فعليا في 7 أبريل/نيسان، بعد بث إذاعة "التلال الألف الحرة" خطابًا يدعو إلى "استئصال الصرصار التوتسي"، تزامنًا مع اغتيال رئيسة الوزراء أغاثا أويلينغييمانا ومقتل 10 جنود بلجيكيين من قوات حفظ السلام.

إعلان

أعقب ذلك اغتيال عدد من زعماء الهوتو المعتدلين وانسحاب بلجيكا من المهمة الأممية.

الإعلام سلاح إبادة وشاهد تاريخي

في عام 1994، تحوّل الإعلام الرسمي في رواندا إلى أداة تحريض وإبادة جماعية، مسهمًا في واحدة من أبشع المذابح في التاريخ الحديث، والتي أودت بحياة نحو 800 ألف شخص خلال 100 يوم فقط.

ومع احتدام الأزمة، لعبت الإذاعات والصحف المحلية دورا محوريا في تأجيج الكراهية العرقية.

فقد وصفت إذاعة رواندا التوتسي بـ"الصراصير"، بينما استخدمت إذاعة "التلال الألف الحرة" مزيجًا من الترفيه والدعوات الصريحة لحمل السكاكين والمناجل لإبادتهم.

كما أسهمت صحف مثل "كانغورا" وأكثر من 20 مطبوعة أخرى في ترسيخ العداء، عبر مقالات ورسومات شبّهت التوتسي بـ"الثعابين".

وقد وثّقت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا هذه الجرائم الإعلامية، وأدانت شخصيات بارزة بتهم التحريض على الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، أبرزهم حسن نغيزي، محرر صحيفة "كانغورا"، وفرديناند ناهيمانا، المؤسس المشارك لإذاعة "التلال الألف الحرة".

كما وُجهت اتهامات إلى رجل الأعمال فليسيان كابوغا، الذي موّل تأسيس الإذاعة، والمغني الشهير سيمون بيكيندي، رغم عدم مثولهما أمام المحكمة.

ARUSHA, TANZANIA, UNITED REPUBLIC OF: Hassan Ngeze (L), former member of the MRND and founding member of coalition for the Defence of the Republic and a editor for the Kangura newspaper sit 03 December 2003 in the UN Tribunal for Rwanda in Arusha, guarded by a UN security. Mr. Ngeze was sentenced to life imprisonement together with another member of the Rwandan media, Ferdinand Nahimana (not pictured) for conspiracy to commit Genocide and public incitement to commit Genocide at the end of the
الصحفي الرواندي حسن نغيزي (يسار) محرر صحيفة كانغورا، أمام المحكمة الأممية لرواندا في أروشا بتنزانيا (غيتي)

سيمون بيكيندي أيقونة الغناء المُدان

عرف الروانديون اسم سيمون بيكيندي، المولود عام 1954، كأحد أبرز الأصوات الفنية في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، بعدما أسس فرقة "إيرينديرو باليه" واشتهر بأغانيه الوطنية التي بثتها إذاعة رواندا على نطاق واسع.

كانت أغانيه تُسمع في الحافلات والحانات والمطاعم والمكاتب، واستُدعيت فرقته الموسيقية لإحياء حفلات الزفاف والمناسبات الرسمية، ما منحه مكانة شبه أسطورية في المشهد الثقافي المحلي.

لكن مع اندلاع الحرب الأهلية بين عامي 1990 و1994، تحوّلت مسيرته الفنية إلى وجه آخر مظلم، إذ اتُّهم باستخدام أغانيه للتحريض على الكراهية العرقية.

وبحسب لائحة الاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، ألّف بيكيندي وسجّل أعمالًا موسيقية تُشيد بتضامن الهوتو وتُحمّل التوتسي مسؤولية استعبادهم، واستخدمت لاحقًا للتحريض على القتل.

من بين أشهر أغانيه التي أُدرجت ضمن الأدلة: "لقد طُردنا"، "الإنذار"، و"أبناء المزارعين"، والتي رُبطت بخطاب سياسي تعبوي خلال فترة الإبادة الجماعية.

ورغم أن بيكيندي كان يتمتع بموهبة فنية حقيقية ومكانة شعبية قبل انخراطه في السياسة، فإن أعماله خلال تلك الفترة أصبحت جزءًا من ملف الاتهام الذي وجّه له تهمًا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

Former top Rwandan artist Simon Bikindi (R) stands before the International Criminal Tribunal for Rwanda (ICTR) in Arusha December 2, 2008. A U.N. court trying the masterminds of Rwanda's 1994 genocide gave a 15-year jail sentence on Tuesday to a famous musician who used a public address system to incite the killing of ethnic Tutsis. The Tanzania-based ICTR found Bikindi, 54, guilty of direct and public incitement to commit genocide. REUTERS/Hirondelle News Agency/Handout (TANZANIA)
سيمون بيكيندي (يمين) يقف أمام المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في أروشا، 2 ديسمبر/كانون الأول 2008 (رويترز)

محاكمة سيمون بيكيندي

في عام 2001، اعتُقل الموسيقار الرواندي سيمون بيكيندي في هولندا، وسُلّم لاحقًا إلى تنزانيا للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في مدينة أروشا.

وبعد محاكمة امتدت لسنوات، أدانته المحكمة في ديسمبر/كانون الأول 2008 بتهمة التحريض المباشر والعام على ارتكاب إبادة جماعية، استنادًا إلى خطاب علني ألقاه في يونيو/تموز 1994 وصف فيه التوتسي بـ"الأفاعي".
وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة 15 عامًا، وأُيّد الحكم استئنافيا في عام 2010.

دور الموسيقى في التحريض

اتهم الادعاء بيكيندي باستخدام أغانيه للتحريض على العنف، مشيرًا إلى أعمال موسيقية تمجّد "تضامن الهوتو" وتهاجم التوتسي.

إعلان

ومن بين الأغاني التي أثارت الجدل، أغنية بلغة الكينيارواندا بعنوان "أنا أكره الهوتو"، والتي تُترجم تقريبًا إلى "أنا أكره الهوتو"، ويُعتقد أنها تستهدف الهوتو المعتدلين الذين تعاطفوا مع الجبهة الوطنية الرواندية.

لكن محاميه، ويلفريد نديريتو، نفى هذه الاتهامات، مؤكدًا أن الأغاني أُسيء تفسيرها وأن موكله لم يدعُ إلى العنف.

ورغم الجدل حول مضمون أعماله، فإن المحكمة اعتبرت بيكيندي مسؤولًا عن استخدام فنه كأداة تحريض خلال الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994.

أكره هؤلاء الهوتو، الذين يمكن تحريضهم على القتل

والذين أقسم لكم، يقتلون الهوتو

أيها الرفاق الأعزاء

إن كرهتهم فهذا للأفضل

بعد انتهاء فترة محكوميته، عاش سيمون بيكيندي في منفى اختياري بجمهورية بنين، حيث وافته المنية في ديسمبر/كانون الأول 2018 عن عمر ناهز 64 عامًا، متأثرًا بمضاعفات مرض السكري.

رحل بيكيندي تاركًا خلفه إرثًا مثيرًا للجدل، يجمع بين صورة الفنان الوطني الذي سكن وجدان الروانديين، والمُدان بالتحريض على الإبادة الجماعية، بعدما ارتبط اسمه بإحدى أكثر المآسي دموية في التاريخ الحديث.

الموسيقى من لحن للحياة إلى سلاح للتحريض

في أعقاب الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994، لم تعد الموسيقى مجرد فن للتسلية، بل تحولت إلى وسيلة لفهم الصدمة وبناء الذاكرة الجماعية.

خلال سنوات ما بعد الصراع، استخدم الفنانون أغانيهم للتعبير عن الحزن والهوية، وكمجالس ثقافية للمصالحة المفروضة، إلا أن هذا الدور الإنساني اصطدم بجانب مظلم تكشّف لاحقًا: التحريض الموسيقي.

فقد استخدم مرتكبو الإبادة الموسيقى ضمن تقنيات بث حديثة لشرعنة العنف ضد جماعات بعينها.

لم تكن الأغاني الإذاعية دائمًا معروفة أو مكتملة، بل كانت تُبث مقاطع موسيقية يتبعها مذيعون بخطابات تحريضية.

كما أنشدت مجموعات الإنترهاموي أهازيج خلال مسيراتهم تضمنت دعوات صريحة إلى "القضاء على الصراصير"، وهي الكلمة التي استُخدمت كرمز للتوتسي.

في المقابل، لعبت الموسيقى دورا محوريا في فهم التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة، إذ ساعدت المجتمعات على الانتقال من الصدمة إلى الحداد، ووفّرت إطارا عاطفيا للتعامل مع الكارثة.

وتُظهر تجارب عدد من المطربين البارزين قبل وبعد المأساة كيف غيّرت الإبادة الجماعية مساراتهم الإبداعية، حيث أصبحت الموسيقى مساحة للتعبير عن التوتر بين الرغبة في الاستمرار الثقافي وضغوط الدولة لتحقيق الوحدة الوطنية.

وبرغم دورها في صون الذاكرة، ظلّت الأغاني تكشف عن الغموض والارتباك الذي يعيشه كثير من الروانديين تجاه خطاب المصالحة الرسمي.

دور الموسيقى عقب المذابح

عندما عجزت التحذيرات الدولية عن وقف توظيف الفن في التحريض على العنف، أقدمت المحاكم الجنائية الدولية على إرساء سوابق قانونية بملاحقة الفنانين والمذيعين الذين تورطوا في نشر خطاب الكراهية.

ومنذ ذلك الحين، بات التوازن بين حرية التعبير ومخاطر التحريض في أوقات النزاع موضع مراجعة قانونية وأخلاقية مستمرة.

تكشف تجربة رواندا أن الموسيقى ليست دائمًا محايدة أو ترفيهية، بل يمكن أن تتحول إلى أداة للبقاء أو سلاح للدمار.

فقد أثّرت ملاحقات الموسيقيين والمذيعين المتورطين في التحريض على الإبادة الجماعية في تطور القانون الجنائي الدولي، وأسهمت في إعادة تعريف مسؤولية الفنانين والإعلاميين في سياقات العنف الجماعي.

وتظل إبادة رواندا شاهدًا صارخًا على خطورة توظيف الفن والإعلام كأداة للكراهية، حين يتحول من ناقل للحقائق إلى وسيلة تعبئة دموية.

وهكذا تبرز رواندا كحالة نموذجية تكشف الوجه المزدوج للموسيقى: قوة لصون الذاكرة والهوية، وفي الوقت ذاته، وسيلة قادرة على تمزيق المجتمعات.

0 تعليق