تُعد الأزياء بمثابة سجل حي يوثق تاريخ الشعوب وعاداتها وتقاليدها، إذ تحوّل الأقمشة إلى صفحات تُسجل عليها أنماط الحياة المختلفة، لتصبح في النهاية هوية ثقافية وتاريخية تعكس ارتباط الإنسان بأرضه.
ومن هذا المنطلق، لا ينظر الفلسطيني إلى ثوبه التراثي على أنه مجرد خيوط مطرزة أو نقوش فنية، بل يراه مرآةً لتاريخه العريق، وجسرًا يصل حاضره بحضارته الكنعانية الضاربة في الجذور.
حتى عام 1948، كان التطريز الفلسطيني يزيّن ملابس النساء القرويات والبدويات على وجه الخصوص، بما في ذلك الثوب والعباءة وغطاء الرأس. وقد تميّزت المرأة الفلسطينية، خاصة في الأرياف، بمهارتها الفائقة في هذا الفن.
واستثمرت المرأة الفلسطينية التطريز في مختلف تفاصيل حياتها، من زخرفة بيتها وثوبها إلى تزيين أدواتها اليومية، مستوحية رموزها وألوانها من طبيعة بلادها وبيئتها المحلية.
وقد عكست هذه الأثواب الطابع الخاص بكل منطقة في فلسطين وميّزتها عن غيرها، إذ وثّقت طبيعتها وخصوصيتها واهتمامات أهلها.
فعلى سبيل المثال، حملت أثواب مدن وقرى الساحل ألوانًا ورموزًا تختلف عن النقوش المطرزة على أثواب النساء في بئر السبع ووسط فلسطين.
فما دلالة الرموز والألوان المختلفة التي تُزين الثوب الفلسطيني؟
الهيبة في ثوب القدس والجرأة في غزة
تقول سلطانة صدر، من نابلس والتي تعمل في التطريز منذ 30 عاما: "التطريز الفلسطيني هو فن ومهارة، وإتقان وإبداع، لذا نشجع النساء على إتقانه حتى تظل هذه المهنة موجودة، لأنها جزء وجذر عظيم من تراث الشعب الفلسطيني والسيدة الفلسطينية".
وتحكي سلطانة عن اختلاف فن التطريز في كل مدينة فلسطينية، فمدن القدس ورام الله والبيرة، تكون أثوابها غنية بالتطريز ويغلبها اللون الأحمر الداكن، وترمز نقوش ثوبهم للمكانة العالية والهيبة.
أما أثواب غزة، تضيف سلطانة، فهي زاهية يغلب عليها اللون الأحمر والبرتقالي والأزرق، والتطريز يكون على شكل زخارف كبيرة مثل أشكال هندسية وزهور كرمز للحيوية والجرأة. في حين يعكس ثوب غزة حينما يطرز بالسرو أو مفتاح الحياة، إلى الجدية والالتزام.

البهجة في يافا
وتتابع قائلة: "في مدينة يافا تتنوع ألوان الأثواب بين الأبيض والأزرق الفاتح، وتُطرز عادة بخطوط طويلة وزهور، ويتميز هذا الثوب على وجه الخصوص ببروز تطريز الصدر، وكان يُرتدى غالبًا في المناسبات والأفراح، حيث يرمز إلى البحر والانفتاح والبهجة".
إعلان
أما ثوب الخليل فيغلب عليه اللون الأسود المزين بتطريز أحمر، وتُزيّن أكمامه الواسعة نقوش مائلة تتخللها أشكال هندسية مثل المثلثات، ليعكس دلالات مرتبطة بالهيبة والمكانة الاجتماعية الرفيعة، كما توضح سلطانة.
شهرة بيت لحم وبساطة الجليل وعراقة نابلس
وعن أشهر أثواب فلسطين، تحكي سلطانة لنا عن ثوب بيت لحم الذي يطلقون عليه الثوب (التلحمي)، ويطرز بخيوط الحرير أو الذهب أو القصب، لذا فهو أغلى أنواع الثياب وأثقلها.
وهذا على عكس ثوب الجليل المتميز بالبساطة والعملية، والألوان الداكنة كالأزرق والأخضر، رمزا للأرض. "ويأتي ثوب مدينتي نابلس، ليعكس هيبة المدينة وعراقتها، بألوانه الأسود والكحلي الغامق".
وتشرح سلطانة الفوارق بين أثواب العزباء والمتزوجة والأرملة قائلة: "تميل الفتاة العزباء إلى ارتداء ألوان زاهية مثل البرتقالي والأصفر والأحمر والوردي وكذلك البنفسجي".
بينما تقلّل المرأة المتزوجة من حدة الألوان، فتختار الأحمر القاني أو الأزرق، وتزدان أثوابها بنقوش كبيرة ودقيقة تعكس مكانتها وهيبتها كزوجة. أما الأرملة، فتكتفي بارتداء ثوب أسود أو كحلي بتطريز أسود خفيف، إشارة للحزن والوقار.
وتضيف موضحة رمزية الألوان في التراث الفلسطيني: "يرمز اللون الأحمر إلى القوة والفرح، بينما يعكس الأسود الحزن والوقار والفخامة. أما الأخضر فيرتبط بالأرض والزرع والبركة، في حين يدل الأزرق على الحماية من الحسد والعين".

أسرار خيوط فن التطريز
يكمن سر جمال وتميز القطعة المطرزة في اختيار نوع الخيط المناسب لكل قماش، واستخدامه بشكل صحيح، وتتنوع الخيوط في التطريز الفلسطيني لتشمل:
– الخيط القطني: وهو الأكثر شيوعا وانتشارا في مدن فلسطين، ويستخدم في تطريز كل أنواع الثياب، نظرا لسعره البسيط.
– الخيط الحريري: الذي يعد من أغلى الخيوط وأثقلها، فالثوب المطرز بخيوط الحرير قد يصل وزنه إلى 8 كيلوغرامات، ولا يُلبس إلا في المناسبات والاحتفالات.
– الخيوط الذهبية والفضية: التي تضفي لمسة فخامة وتفردا للثوب، وغالبا ما تراها في الاحتفالات والأعياد.
– الخيط المقصب: المعروف في الزخرفة، سواء على الأثواب أو السترات المصنوعة من قماش المخمل، وينتشر في شمال فلسطين.
– خيوط البوليستر: التي تستخدم في التطريز الآلي وتشتهر بالثبات والمتانة، كما تساعد في وصل أجزاء الثوب بعضها بعضا، ويستخدمون بعد ذلك خيوط الحرير للتطريز فوق الوصلة.

العنب والسرو أبطال في الثوب الفلسطيني
يعبر مكان التطريز على الثوب والمساحة المخصصة له عن مكانة الرموز وأهميتها. فالتطريز الثانوي بعروق الورد وقطوف العنب وسعف النخيل، على المناطق الجانبية من الأثواب.
أما الرموز الأساسية فتأخذ مساحة أكبر في صدر الثوب أو في ذيله، مثل الزهور، والحصان، والسرو وهو نبات فلسطيني، وغيرها من الرموز، التي يرجع اختيارها للمرأة التي تطرز، ولمتطلبات الحياة والبيئة التي تعيش فيها.
وعن دلالات بعض الرموز في فن التطريز الفلسطيني، تشير نباتات السرو إلى الصمود في وجه الجفاف، لما تمتاز به من نمو صاعد وخشب قوي وانسيابي.

أما الحصان، فيحمل رمزية القوة والصفات الرفيعة، استنادًا إلى دوره البارز في تاريخ فلسطين وثورة الفلاحين عام 1937، ويظهر غالبًا في أثواب أهل القدس على هيئة رأسي حصان متقابلين.
إعلان
كما يرمز العنب، وهو من أقدم أشجار فلسطين، إلى الخير والعطاء واللذة. وقد استلهمت المرأة الفلسطينية من سيقانه وأوراقه وحدات زخرفية أدرجتها في نقوش الثوب التراثي.
وفي المحصلة، يتجلى تاريخ فلسطين العريق في هذه الغرز الملونة والرموز المتنوعة، التي تحوّل القماش إلى لوحة فنية ترتديها النساء في أجمل هيئة، فتجسد من خلالها هويةً متجذرة في التاريخ وموضةً خالدة لا تنتهي.
0 تعليق