لا تُعد المصارعة الشعبية في جنوب السودان مجرد رياضة تقليدية، بل هي طقس فولكلوري يجمع بين الإثارة والتنافس، ويعكس عمق الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية.
ورغم ارتباطها تاريخيا بمجموعات الدينكا في بور ويرول، والمنداري واللاتوكا في منطقة إقليم شرق الاستوائية، فقد أصبحت اليوم جزءا من بطولات منظمة تستقطب آلاف المشاهدين، وتُبرز أهمية التراث في تعزيز الانتماء المجتمعي والتواصل بين مختلف المكونات المحلية.
ومع هذا الزخم المتنامي، تبرز المصارعة الشعبية كنافذة لتعريف العالم بجنوب السودان من زاوية جديدة، لا باعتباره بلدا للصراعات، بل وطنا غنيا بالتقاليد، قادرا على توظيف تراثه في التنمية والسياحة.

تعود جذور المصارعة الشعبية إلى تقاليد قديمة ارتبطت بممارسات مجتمعية محددة، غير أن ظروف الحرب والنزوح أسهمت في انتقالها إلى مناطق ومدن أخرى، مما منحها بعدا جديدا بوصفها وسيلة لبناء جسور التواصل وترسيخ ثقافة السلام وتعزيز روح التعايش.
بالنسبة للمجموعات الرعوية، خاصة الدينكا والمنداري واللاتوكا، تُعد المصارعة تقليدا راسخا في التنشئة الاجتماعية، حيث تُوظف لغرس روح الاعتماد على الذات بين الذكور وإعدادهم لمواجهة مصاعب الحياة.
ويجري تدريب الشباب عادة في مراعي الأبقار خلال فصل الصيف بما يتيح لهم اكتساب القوة والانضباط وتحمل المشاق في بيئة تُعتبر جزءا من مسارهم نحو النضج والمسؤولية.
في السنوات الأخيرة، شهدت المصارعة التقليدية نقلة نوعية، إذ تجاوزت إطارها المحلي لتصبح بطولات دورية تُقام في العاصمة جوبا وعدد من الولايات، ترافق ذلك مع تنظيم أكثر احترافية، حيث تأسست اتحادات وأندية محلية، وبرز مدربون وفرق متخصصة، في وقت صار ملعب جوبا الرياضي أحد أبرز الساحات التي تحتضن المنافسات، مانحا هذه الرياضة الشعبية حضورا رسميا وجماهيريا متزايدا.
إعلان
ويرى العديد من المحللين أن المصارعة الشعبية تجاوزت كونها نشاطا تقليديا لتصبح أداة ثقافية واجتماعية مهمة، تعزز الهوية المحلية، وتربط بين المجتمعات المختلفة، وتسهم في ترسيخ قيم التعايش والسلام.
يقول زكريا نمر، كاتب مهتم بقضايا الثقافة، إن المصارعة الشعبية واحدة من أبرز الممارسات الفولكلورية التي تجسد عمق الذاكرة الثقافية للشعوب المحلية، فهي ليست مجرد منافسة جسدية، بل هي فضاء اجتماعي حي يلتقي فيه الناس للاحتفاء بالشجاعة والفروسية والتقاليد المتوارثة.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت "مع تزايد تنظيم البطولات في المدن والقرى، باتت المصارعة الشعبية تجذب آلاف المتفرجين، الأمر الذي يفتح المجال أمام استثمارها في السياحة الثقافية وصناعة الترفيه، كما أنها تشكل فرصة لإعادة تعريف صورة جنوب السودان في العالم، ليس كبلد للنزاعات، بل كموطن لتقاليد غنية قادرة على أن تكون أداة للتنمية وبناء الهوية الوطنية".

وفي الآونة الأخيرة، اكتسبت المصارعة التقليدية شعبية واسعة، حيث يكتظ ملعب مدينة جوبا بجماهير من مختلف المجموعات المحلية لمتابعة المباريات.
ولا يقتصر الحضور على السكان المحليين، بل يشمل أيضا أجانب يعملون في السفارات ومجموعات تنشط في التجارة، إضافة إلى جماعات أخرى لم تمارس اللعبة في مناطقها الأصلية، مما يعكس قدرتها على جذب اهتمام متنوع وتوسيع قاعدة جمهورها.
وبحسب الباحث في التراث والثقافة رياك ديينق، فإن المصارعة الشعبية عادة قديمة تُمارس منذ العصور البعيدة، ويُرجع أصلها إلى الحقبة الكوشية وفق الروايات الشفاهية المتداولة بين المجتمعات التي تمارس اللعبة، مثل دينكا بور، والمنداري، ودينكا يرول في ولاية البحيرات.
ويضيف في تصريحاته للجزيرة نت "إذا نُظمت هذه الرياضة بشكل أكثر احترافية، فإنها يمكن أن توفر للحكومة فرصا لتأسيس ميادين مصارعة في مناطق مثل بور وتركيكا ويرول، بما يسهم في تعزيز النسيج الاجتماعي ويشجع حضور الزوار من خارج البلاد. وغالبا ما يبدأ كل موسم بطقوس دينية يؤديها كبار السن لتفادي أي نزاعات بين جماهير الفرق المتصارعة".
كذلك أصبحت المصارعة، كرياضة شعبية ذات طابع ترفيهي، جزءا لا يتجزأ من البرامج والمهرجانات التي تنظمها المنظمات المدنية ضمن حملاتها لتشجيع ثقافة السلام ونبذ العنف.
ومن خلال هذا الدور، تحولت المصارعة من مجرد لعبة قتالية إلى رسالة سلام ومحبة تسهم في تقريب المجتمعات التي تعاني من نزاعات متكررة بسبب نهب الأبقار والصراعات العشائرية، وتعزز روح التعايش والاحترام المتبادل.
أما الكاتب الصحفي أجانق بول، فيرى أن المصارعة التقليدية تمثل مصدرا للإلهام والشجاعة ورمزا للقوة، خاصة في مناطق القبائل الرعوية، حيث تكتسب هذه المنافسات زخما وفخرا كبيرين.
ويشير بول إلى أن عددا كبيرا من البطولات بات يُقام في العاصمة جوبا بين مجتمعات بور ويرول أو بور والمنداري في ملعب جوبا ومناطق أخرى مثل نيو سايد وضاحية الشركات، لتصبح نقطة التقاء للاحتفاء بالمهارات التقليدية والفخر المجتمعي.
إعلان
ويختتم بول حديثه للجزيرة نت قائلا "مثل هذه الأحداث يمكن الاستفادة منها من خلال وضع قوانين ولوائح لتنظيم المصارعة، تُراعي حقوق الملكية الفردية والحقوق الإنسانية، ويُمنح كل فرد فرصة ممارسة نشاطه ضمن إطار قانوني منظم".
وأضاف "إذا ما تم تنظيم هذه الرياضة مثل المباريات الدولية، أعتقد أنها ستكون جامعًا لشعوبنا وستسهم في تعزيز النسيج الاجتماعي وترسيخ التعايش بين المكونات المختلفة".
0 تعليق