غزة - شينخوا: وسط دخان الأبراج السكنية المنهارة وصوت الانفجارات المتلاحقة في مدينة غزة، يتمسك فلسطينيون بالبقاء في مدينتهم تحت وابل الغارات الإسرائيلية، ويرفضون النزوح إلى مناطق "إنسانية" في جنوب القطاع، هي في نظر كثيرين منهم "ساحات موت أخرى".
ودمر الجيش الإسرائيلي خلال يومي الجمعة والسبت أبراجاً وعمارات سكنية في مدينة غزة، أبرزها برجا السوسي ومشتهي، ما أحدث حفراً ضخمة في الأرض، وخلف مئات العائلات بلا مأوى.
وأعلن الجيش الإسرائيلي الجمعة أنه سيهاجم "أبراجاً متعددة الطوابق" في مدينة غزة "في الأيام القليلة المقبلة"، تمهيدًا "لتوسيع الضربات ضد حماس" في المدينة.
ويتهم الجيش حركة المقاومة الإسلامية (حماس) باستخدام هذه الأبراج لتنفيذ مخططات ضد قواته في المنطقة، وهو ما نفته الحركة.
ويجري استهداف البنايات في مدينة غزة بـ"وتيرة متسارعة"، في مسعى واضح لإفراغ المربعات السكنية وإجبار الناس على الرحيل، وفق مسؤولين في غزة وشهود عيان.
"مدينة أشباح"
واستهدفت الطائرات الحربية أربع بنايات في شارع النفق، أحد الأحياء المكتظة في مدينة غزة، في أقل من ساعتين فقط، حسب الناطق الرسمي باسم الدفاع المدني محمود بصل.
وقال بصل إن الجيش الإسرائيلي يهدف عبر قصفه للبنايات والأبراج السكنية، إجبار السكان على النزوح إلى الجنوب وتحويلها إلى "مدينة أشباح".
وقال أبو محمد العرابيد، وهو خمسيني من سكان حي النفق، أجبر على النزوح للمرة الأولى من حيه منذ بدء الحرب، "الجيش الإسرائيلي يواصل تدمير مدينتنا فقط من أجل إجبارنا على النزوح".
وتابع "بقيت طيلة عامين في الشمال ولم أنزح، لكنني اليوم خرجت مرغما. لم يعد أمامي خيار آخر بعد أن سقطت البنايات حولنا".
وألقى الجيش الإسرائيلي امس، منشورات على مدينة غزة، بالإضافة إلى إجراء مكالمات هاتفية تحذيرية للسكان تحثهم على المغادرة وإخلاء المدينة.
كما أعلن عن "منطقة إنسانية جديدة" في خان يونس جنوب قطاع غزة، ما أثار موجة ارتياب في أوساط السكان، خاصة أن الخرائط التي وزعت أظهرت أن مدنا مثل دير البلح والزوايدة ليست ضمن المنطقة، ما يعزز مخاوف من عمليات عسكرية وشيكة في وسط القطاع.
وقال سامر أبو سمرة من مدينة غزة (38 عاما) وهو رب أسرة نازحة، "يريدون أن يحشرونا في مترين أرض في المواصي التي تعاني أصلا من تكدس نازحين، ناهيك عن أنها ليست آمنة". ويضيف "لا يوجد مكان نذهب إليه. لا نملك ثمن شاحنة لنقل الأغراض، ولا حتى ثمن خيمة. الناس بالكاد تستطيع حمل عفشها".
وقبل أسبوع بدأ الجيش الإسرائيلي "العمليات التمهيدية والمراحل الأولية" للهجوم على مدينة غزة، وكثف عملياته في الأيام الأخيرة بعد موافقة الحكومة على خطة للسيطرة على المدينة بشكل كامل.
"لن نرحل"
ورغم تصاعد الضغط العسكري الإسرائيلي، يقدر نشطاء محليون أن نحو 80% من سكان مدينة غزة يرفضون النزوح.
ودشن نشطاء هاشتاغات، ونشروها على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي لتعبر عن تمسك السكان بمنازلهم مهما كانت التكلفة.
وقال ناصر العطار، وهو معلم مدرسة في حي الرمال، "أنا جربت النزوح إلى الخيام في الجنوب وعشت أسوأ تجربة بحياتي لذلك لن أكررها مهما كلف الأمر. الجنوب ليس آمنا وكل يوم يقتل فيه أطفال ونساء. بقاؤنا هنا ليس بطولة بقدر ما هو فقدان الأمل بأي بديل".
وتضم مدينة غزة أكثر من 51 ألف مبنى، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، مؤكدا أن "المقاومة لا تعمل من داخل الأبراج السكنية مطلقا".
وفيما تصر إسرائيل على أن عملياتها تستهدف "القضاء على حماس"، يصف سكان المدينة الأمر بأنه "حرب وجودية ضد المدنيين".
نزوح عكسي
وفي مشهد يعكس تعقيد الموقف، أفادت مصادر محلية بأن بعض العائلات بدأت تغادر دير البلح وخان يونس عائدة إلى مدينة غزة، بعد أن ضاقت بها الحياة في الجنوب.
وشوهدت خيام تُنصب في غرب مدينة غزة. وتقول الفلسطينية أم علاء أبو عجوة التي نصبت خيمة قرب شاطئ غزة، "الحياة في دير البلح وخان يونس لم تعد ممكنة بعد تدمير معظم البنية التحتية لذلك قررنا العودة رغم المخاطر. على الأقل نموت في مدينتنا لا في خيمة بلا ماء ولا طعام".
وفي مخيم الشاطئ، يجلس أبو لؤي (60 عاما) أمام منزله نصف المدمر، رافضا فكرة النزوح. وقال "منذ بداية الحرب جربوا كل شيء: الحصار، التجويع، القصف. هدفهم تدمير المدينة وإخلاؤها. لكننا نعرف أن البقاء هو الحل. النزوح موت آخر".
ومع اقتراب العمليات البرية من قلب المدينة، تبقى غزة عالقة بين خيارين أحلاهما مر: مواجهة قصف قد يحولها إلى أنقاض، أو النزوح إلى جنوب مكتظ بلا مقومات حياة. وبين هذا وذاك، يصر كثيرون على أن التمسك بالأرض هو ما تبقى لهم في معركة غير متكافئة.
وتقول أم محمد جابر بينما كانت تجمع ما تبقى من أثاث منزلها "نحن مرغمون على البقاء، لم يعد لدينا ما نخسره سوى حياتنا، لكن النزوح يعني فقدان الكرامة أيضا. لذلك سنبقى هنا حتى النهاية".
0 تعليق