لم يعد سماع نبضات المرضى عبر السماعة الطبية كافيا، فقد دخل الذكاء الاصطناعي على الخط، لا كطبيب تقليدي، بل كـ"منقذ جديد" يجمع ملايين البيانات في ثوان ويتوقع مسار العدوى عبر خوارزميات تسبق الباحثين في تعقب الفيروسات.
من هنا، اكتسبت التجربة الأوروبية أهمية فريدة في جهود توظيف الذكاء الاصطناعي في الطب الوقائي، بعدما أصبحت القارة تبحث عن المرض قبل تفشيه وقبل أن يُضطر الأطباء للبحث عن اللقاح.
إستراتيجية الاتحاد الأوروبي
يشير تقرير الوكالة التنفيذية الأوروبية للصحة والرقمنة بعنوان "أفق أوروبا 2025" إلى أن الاتحاد الأوروبي قد دخل مرحلة جديدة في تعامله مع التهديدات الوبائية، إذ أعلن عن مبادرات طموحة تندرج ضمن ما يسمى بـ"مشاريع البحث والابتكار" لتعزيز الجاهزية الصحية لمواجهة الجوائح المستقبلية.
تركز هذه المبادرات على استخدام التكنولوجيا الحديثة، خصوصا الذكاء الاصطناعي، لتطوير أدوات قادرة على تحليل بيانات متنوعة كالسجلات الطبية، ومياه الصرف الصحي، والمؤشرات البيئية للكشف المبكر عن انتشار مسببات الأمراض.
ويعد الهدف المركزي هو بناء منظومة تنبؤية تكتشف الأوبئة قبل تحولها لأزمات تهدد الملايين، مما ينقل أوروبا من التصدي للأمراض إلى القضاء على أسبابها عبر سياسات صحية تعتمد على إشارات ذكية غير مرئية للإنسان العادي.
ومن الناحية المالية، خصص الاتحاد الأوروبي لهذا المشروع ميزانية ضخمة بلغت 35 مليون يورو، على أن يحصل كل فريق بحثي مشارك على ما بين 6 و8 ملايين يورو.
وتشير بعض الوثائق الرسمية إلى إمكانية مضاعفة هذه الميزانية في بعض الحالات الخاصة لتصل إلى 80 مليون يورو، وهو ما يعكس حجم الطموح خلف المشروع.
تعد هذه الأرقام إشارة واضحة إلى أن أوروبا تنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره استثمارا إستراتيجيا لا يقل أهمية عن البنى التحتية التقليدية كالطرق والطاقة، إذ يتضح من تفاصيل المشروع أن الأمر لا يقتصر على تطوير برمجيات للتنبؤ بالأوبئة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تحسين أدوات التشخيص الطبي ووضع خطط دقيقة للتعامل مع احتمالات تفشي الأمراض.
إعلان
ويطمح الباحثون إلى بناء أنظمة دقيقة قادرة على التعرف على أنماط خفية في البيانات الوبائية تمكن من العثور على بؤر العدوى، حتى في حال عدم تسجيل أي إصابات مؤكدة بعد. ويعرف هذا التوجه بالطب الوقائي الاستباقي، وهو مفهوم جديد في السياسات الصحية المعاصرة، يقوم على التدخل المبكر قبل أن يظهر الخطر للعلن.

صناع القرار الحكومي والعمل الجماعي
هذا المشروع لا يستهدف الأطباء والعلماء وحدهم، وإنما يوجه نتائجه أيضا إلى صناع القرار الذين يحتاجون إلى أدوات دقيقة لاتخاذ إجراءات عاجلة، سواء تعلق الأمر مثلا بفرض الحجر الصحي في منطقة معينة، أو إعادة توزيع الموارد الطبية بين المستشفيات، أو إطلاق حملات تطعيم وطنية.
فالربط بين المختبرات والمكاتب الحكومية يشكل أحد أهم إنجازات هذه المبادرة، لأنه يحول المعرفة العلمية إلى قرارات عملية قادرة على إنقاذ الأرواح.
أما على المستوى السياسي، فيؤكد تقرير الوكالة الأوروبية للصحة والرقمنة أن هذه المبادرة تكشف عن وعي أوروبي متزايد بأن الصحة العامة باتت جزءا لا يتجزأ من الأمن الأوروبي الشامل، فالأوبئة لا تعترف بالحدود، وسرعة انتشارها تتجاوز قدرة الدول منفردة على المواجهة.
ومن هنا، فإن إطلاق مشروع مشترك على مستوى الاتحاد يمثل رسالة مفادها أن المعركة ضد الأمراض والأوبئة هي مسؤولية جماعية، وأن التضامن الأوروبي يجب أن يتجلى في حماية صحة الإنسان.
ولا يخفى أن هذه المبادرة تأتي أيضا في سياق تنافسي عالمي، ففي حين تستثمر الولايات المتحدة والصين بكثافة في الذكاء الاصطناعي، تسعى أوروبا إلى تأكيد استقلالها الرقمي والتكنولوجي، وبناء نموذج خاص بها يقوم على الموازنة بين الابتكار والاعتبارات الأخلاقية.
قدرات الذكاء الاصطناعي في استباق الأوبئة
في مقابلة نشرتها صحيفة إلباييس الإسبانية، في 8 فبراير/شباط 2025، حذرت عالمة الفيروسات مارغريتا ديل فال من أن التغيرات المناخية والتحولات البيئية الجارية في القارة الأوروبية قد تجعلها أكثر عرضة لظهور أمراض كانت في الماضي حكرا على المناطق الاستوائية.
فقد بات انتقال فيروسات مثل حمى الضنك أو زيكا إلى بيئة البحر الأبيض المتوسط احتمالا قائما، بل مرجحا، مع ازدياد موجات الحر والرطوبة التي توفر ظروفا مثالية لانتشار البعوض الناقل للأمراض.
الجديد اليوم أن هذه التحذيرات لم تعد تعتمد فقط على مراقبة بشرية تقليدية، بل على نماذج رقمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ترصد حركة الحشرات، وتدمجها مع بيانات الطقس والبيئة لتحديد أي المناطق ستكون مرشحة للتحول إلى بؤر وبائية.
لا يكمن التحدي، الذي يواجه العلماء اليوم، في فهم خصائص الفيروسات فقط، بل في القدرة على توقع سلوكها عند انتقالها إلى بيئات جديدة. وهنا يبرز دور الذكاء الاصطناعي، إذ أصبح بمثابة شريك للباحثين يحلل ملايين المعطيات القادمة من مراكز الأرصاد الجوية ومحطات الرصد الصحي وحتى شبكات الصرف الصحي، ليقدم خريطة احتمالية دقيقة عن أماكن الخطر المحتمل.
ففي الوقت الذي كان فيه الباحثون الأوروبيون يركزون على متابعة أمراض موسمية مألوفة مثل الإنفلونزا، بدأت الخوارزميات تكشف لهم مؤشرات أوسع، تدفع إلى ضرورة توسيع دائرة الرصد لتشمل أمراضا طالما وُصفت بالبعيدة جغرافيا.
إعلان
ولا يمكن لهذا التوجه أن ينجح بشكل فعال من دون تعاون عابر للحدود، يقوم على تبادل مستمر لقواعد البيانات بين مراكز البحث في أوروبا وخارجها، انطلاقا من حقيقة أن الفيروسات لا تعترف بالحدود، فقد تبدأ في إقليم صغير ثم تنتشر بسرعة لتغطي القارات كافة، كما حدث مع جائحة كوفيد-19.

الدور العلمي والبشري في العملية
ولا يمكن أن تتم مواجهة الأخطار القادمة عبر الأجهزة التقنية أو النماذج الحسابية فقط، بل يجب أن تقوم على يقظة علمية مستمرة. فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغت دقته، يبقى أداة تحتاج إلى عين بشرية تفسر مخرجاته وتقرأ إشاراته. فالعلماء مطالبون بالانتباه إلى التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو هامشية لعامة الناس، لكنها تمثل مقدمات خطيرة لانتشار العدوى.
فإذا لاحظت خوارزمية ارتفاعا مفاجئا في كثافة بعوضة ناقلة أو تسجيلا غير عادي لحالات الحمى في منطقة معينة، يبقى على الباحث أن يؤكد هذه الإشارات ويربطها بالواقع الميداني حتى يظهر التكامل بين الذكاء الاصطناعي والعقل البشري إذ لا يستغني أحدهما عن الآخر.
ومن أهم الدروس المستفادة من جائحة كورونا الأخيرة، أن المجتمعات الأوروبية أدركت أنه لا يمكنها الاكتفاء بردود الفعل المتأخرة، فالاعتماد فقط على المختبرات عند ظهور حالات إصابة مؤكدة يفقد السلطات فرصة ذهبية لاحتواء العدوى في بدايتها، وفق استنتاج ديل فال.
ولا تغفل ديل فال عن البعد الاجتماعي والنفسي في التعامل مع الأوبئة، فنجاح الذكاء الاصطناعي في تقديم إنذارات مبكرة لا يعني شيئا إذا لم يتجاوب المجتمع معها. فاستعداد المواطنين لقبول الإجراءات الوقائية مثل حملات التطعيم أو فرض الحجر الصحي، يرتبط بدرجة الثقة في العلماء والباحثين وفي نزاهة استخدام البيانات.
وإذا ما شعر الناس أن هذه النماذج الذكية مجرد أداة للرقابة أو أن القرارات السياسية تتجاهل الرأي العلمي، فإن الاستجابة المجتمعية ستضعف، وهو ما يفاقم من خطورة الوضع. ولهذا يصبح إشراك العلماء في صياغة الخطاب العام، وضمان أن تصل الرسائل بوضوح ضرورة موازية لتطوير أي منظومة ذكية.
قد لا يكون الخطر القادم مجرد وباء فيروسي، بل ربما يتخذ أشكالا أكثر تعقيدا نتيجة تفاعل عوامل بيئية ووبائية متعددة في الوقت ذاته. وهنا يفتح الذكاء الاصطناعي نافذة جديدة على المستقبل، إذ يمكنه محاكاة سيناريوهات غير مألوفة، مثل احتمال انبعاث فيروسات قديمة مع ذوبان الجليد أو انتقال أمراض جديدة بفعل تراجع التنوع البيولوجي.
وتدعو العالمة الإسبانية إلى استخدام الذكاء الاصطناعي مع اليقظة العلمية. فالعلم يكشف التهديدات ويرسم ملامحها، لكن الأنظمة الذكية تمنح هذه المعرفة قوة استباقية، لتصبح الاستجابة الأوروبية أكثر سرعة وفاعلية.

إسبانيا نموذجا للتطبيق العملي
قد يبدو غريبا أن تتحول مياه الصرف الصحي، التي اعتاد الناس النظر إليها كمجرد جزء هامشي من الحياة الحضرية، إلى مصدر إستراتيجي للمعرفة الصحية. فقد أثبتت التجربة الإسبانية أن هذه الشبكات المظلمة يمكن أن تصبح مناجم للبيانات، خاصة حين يتم استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لكشف ما لا تراه العين المجردة.
فبحسب تقرير نشرته إلباييس بتاريخ 6 مايو/أيار 2025، شرعت وزارة الصحة الإسبانية في إنشاء نظام وطني متكامل لرصد مسببات الأمراض في مياه الصرف الصحي، يعتمد في جوهره على تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة.
الميزة الحقيقية لهذا المشروع لا تكمن فقط في جمع العينات، بل في الطريقة التي تُحلَّل بها البيانات، حيث إن ملايين البيانات الميكروبيولوجية والبيئية تُدخل إلى أنظمة ذكية قادرة على التعلم من نفسها وتحسين أدائها باستمرار.
إعلان
وهذه الخوارزميات تبحث عن أنماط خفية في انتشار الفيروسات، وتقارنها ببيانات سابقة، وتولد توقعات دقيقة حول احتمالية تفشي مرض معين في حي أو مدينة.
وهذا ما يفسر كيف تمكنت السلطات في العاصمة مدريد، خلال التجارب الأولية، من توقع موجات عدوى قبل أسبوعين تقريبا من تسجيلها في العيادات الطبية. فالفارق الزمني الذي يوفره الذكاء الاصطناعي قد يكون الفاصل بين أزمة محدودة وأخرى شاملة.
لكن خلف هذا الإنجاز الملموس تقف صرامة علمية هائلة. فالخوارزميات تحتاج إلى بيانات متدفقة باستمرار لتعمل بكفاءة، وهو ما يتطلب تعاونا بين شركات المياه، والبلديات، والمختبرات الوطنية. والأمر لا يتوقف عند جمع البيانات، بل يتعداه إلى تنظيفها وتصنيفها وضبطها وفق معايير دقيقة، حتى تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من قراءتها دون تشويش.
تتميز التجربة الإسبانية بالبعد الاجتماعي. فنجاح المشروع اعتمد على ثقة المواطنين في أن بياناتهم، مهما كانت حساسة، ستُستخدم فقط لحماية الصحة العامة.
يرى الاتحاد الأوروبي في التجربة الإسبانية نموذجا عمليا يمكن تعميمه في بقية الدول، خاصة وأنه يتناغم مع إستراتيجيته الكبرى الرامية إلى بناء "طب وقائي استباقي". كما أن بعض الدول خارج أوروبا، خصوصا في أميركا اللاتينية، أبدت اهتماما باستنساخ الفكرة، مع إدخال تعديلات تتناسب مع بنيتها التحتية.
0 تعليق