يشكل اللوبي الإسرائيلي -خصوصًا في الدول الغربية مثل الولايات المتحدة- قوة تأثير سياسي نافذة تثير جدلاً واسعاً حول مدى خطورتها على السياسات الخارجية والمصلحة العامة لتلك الدول. وتكمن خطورته الأساسية في قدرته الفائقة على حشد الدعم المالي والسياسي لضمان تبني مواقف وقوانين منحازة بشكل كامل إلى إسرائيل، حتى لو تعارضت تلك المواقف مع القانون الدولي أو المصالح الوطنية للدولة المضيفة.
على ضوء هذا، يعمل اللوبي الصهيوني في واشنطن بشكل حثيث على الترويج لفكرة تهجير سكان قطاع غزة، وهي الفكرة التي طرحها الرئيس دونالد ترامب؛ وهو بذلك يسعى لتأطير هذا المقترح من جوانب متعددة تشمل النواحي القانونية والإنسانية والأمنية، بهدف تطبيع فكرة الترحيل وجعلها تبدو كحل نهائي وواقعي لمعضلة غزة. وتستمر هذه الجهود في مواجهة المبادرات العربية التي تهدف إلى إعادة إعمار القطاع دون المساس بوجود سكان غزة الأصليين.
تتخذ هذه المساعي أشكالاً متنوعة، حيث يبرز خبراء ومسؤولون سابقون لتقديم مبررات تدعم خطة التهجير، فمنهم من يعتبرها "قانونية" بحجة أن غزة تفتقر إلى السيادة، ومنهم من يروج لها كخيار "إنساني" يمنح السكان حرية المغادرة من قطاع مدمر. كما تلعب مراكز أبحاث مؤثرة دوراً محورياً في هذا السياق عبر استضافة شخصيات إسرائيلية وتقديم أطروحات مثل "إعادة التوطين الطوعي"، تصب جميعها في نفس الهدف النهائي المتمثل في إفراغ غزة من سكانها.
لهذه الاستراتيجيات والتكتيكات جذورٌ تاريخية نجدها حاضرةً في كتاب "اللوبي الصهيوني على ضفتي الأطلسي" (Lobbying for Zionism on Both Sides of the Atlantic) للمؤرخ إيلان بابيه، الذي يكشف فيه عن الجذور التاريخية العميقة لواحدة من أكثر جماعات الضغط نفوذاً في العالم.
يوضح بابيه أن قوة اللوبي لم تنشأ فجأة، بل هي نتاج عمل استراتيجي منظم بدأ في أوروبا أواخر القرن 19. ويحلل الكتاب كيف انتقلت الحركة الصهيونية من التركيز على الهوية الثقافية إلى ممارسة الدبلوماسية السياسية المكثفة، مُؤسِّسةً لنموذج عمل يعتمد على بناء شبكات علاقات مع النخب السياسية للقوى العظمى، وربط المشروع الصهيوني بمصالحها الاستراتيجية.

يُبرز بابيه في كتابه أن الإنجاز التأسيسي الأول لهذا اللوبي كان "وعد بلفور" عام 1917، الذي لم يكن منحة بريطانية، بل ثمرة جهود دبلوماسية دؤوبة قادها حاييم وايزمان لإقناع لندن بأن دعم وطن قومي لليهود يخدم مصالحها الإمبراطورية.
إعلان
ومع تراجع النفوذ البريطاني وصعود الولايات المتحدة، يكشف بابيه عن التحول الاستراتيجي المحوري للحركة نحو واشنطن، والذي تُوِّج بمؤتمر "بيلتمور" عام 1942. في هذا المؤتمر، تم التخلي عن الأهداف الغامضة لصالح مطلب واضح وصريح بإنشاء دولة يهودية، وهو ما أسس لانتقال مركز ثقل اللوبي إلى أميركا وبداية تشكيل "العلاقة الخاصة" التي ستضمن قيام الدولة ودعمها لاحقاً.
ولفهم هذه الجذور حاورت الجزيرة نت المؤرخ الإسرائيلي والأستاذ الجامعي إيلان بابيه، الذي يُعد من أبرز وجوه تيار "المؤرخين الجدد" الذين تحدوا الرواية الصهيونية التقليدية لتاريخ إسرائيل والصراع العربي-الإسرائيلي. وُلد بابيه في حيفا وبدأ مسيرته الأكاديمية في إسرائيل، لكنه انتقل لاحقًا إلى المملكة المتحدة حيث يعمل حاليًا أستاذًا في جامعة إكستر ومديرًا للمركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية.
اشتهر بابيه بكتاباته النقدية والجريئة، وأهمها كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (The Ethnic Cleansing of Palestine)، الذي جادل فيه بأن طرد الفلسطينيين عام 1948 لم يكن نتيجة عرضية للحرب، بل كان عملية تطهير عرقي مخططا لها ومنهجية. يُعرف بابيه أيضاً بدعمه لحل الدولة الواحدة ومناصرته لحركة المقاطعة "بي دي إس" (BDS) ضد إسرائيل.
في حواره مع الجزيرة نت، يوضح المؤرخ إيلان بابيه أن اللوبي الصهيوني لم ينشأ كحركة يهودية خالصة، بل كتَحالف ثلاثي الأركان قام في بريطانيا منتصف القرن 19. تكوّن هذا التحالف من المسيحيين الإنجيليين الذين انطلقوا من دوافع لاهوتية، والإمبرياليين البريطانيين الذين رأوا في المشروع فرصة لتوسيع نفوذهم على حساب الإمبراطورية العثمانية، وأقلية من النشطاء الصهاينة في أوروبا. كان الهدف الأساسي هو تحويل فكرة دينية إلى مشروع استعماري سياسي يهدف إلى نقل يهود وسط أوروبا وشرقها إلى فلسطين لحل ما اعتبروه "مشكلة أوروبية".
كما كشف بابيه عن المنهجية التي أسسها اللوبي منذ بداياته في لندن مطلع القرن 20، والتي تم تطويرها لاحقًا في الولايات المتحدة. قامت هذه الاستراتيجية على 3 محاور: السيطرة المبكرة على المسار السياسي للمرشحين عبر المقايضة بين الدعم الانتخابي والولاء السياسي، والهندسة الإعلامية القائمة على التضليل وترويج شعارات مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وتوظيف القوة المالية لعائلات نافذة مثل روتشيلد كأداة مزدوجة للإغراء والتهديد.
وأكد بابيه في حواره مع الجزيرة نت على الدور الحاسم الذي لعبه اللوبي في لحظات تاريخية مفصلية. ففي عام 1947، مارس ضغوطًا هائلة لتمرير قرار التقسيم في الأمم المتحدة. وفي عام 1948، تجاوز دوره الدعم الدبلوماسي ليصبح الضامن المباشر لنجاح التطهير العرقي عبر ضمان التفوق العسكري للقوات الصهيونية وتحييد أي رد فعل دولي. وقبل حرب 1967، نجح في إجهاض المسار الدبلوماسي الذي كانت تفضله واشنطن، ثم عمل على تحويل نتائج الحرب إلى مكاسب استراتيجية دائمة لإسرائيل، تضمن دعمًا أميركيًا غير مشروط.
وأشار بابيه إلى التحول الذي شهده اللوبي، خاصة مع تأسيس "إيباك" وتحالفه مع اليمين الإسرائيلي والصهاينة المسيحيين، مما جعله أداة حزبية عملت بفعالية ضد عمليات السلام. ورغم هيمنته المستمرة على النخب السياسية، يواجه اللوبي اليوم أزمة وجودية، حيث "خسر المعركة الأخلاقية ومعركة الرأي العام"، خاصة في أوساط الشباب والجامعات والفضاء الرقمي، مما دفعه للجوء إلى القوة التشريعية لمواجهة حركات التضامن المتنامية، في دليل على تآكل نفوذه القائم على الإقناع.
إعلان
فإلى الحوار:

إلى أي حد يمكن اعتبار نشأة اللوبي الصهيوني نتاجًا لتحالف غير متوقع بين دوافع لاهوتية مسيحية إنجيلية وطموحات إمبريالية بريطانية، أكثر من كونه تعبيرًا عن إرادة يهودية خالصة؟ وكيف أسهم هذا التقاطع في تحويل فكرة دينية إلى مشروع استعماري سياسي في قلب فلسطين؟
سؤال ممتاز، تأسس اللوبي الصهيوني المبكر في بريطانيا، خلافًا للاعتقاد السائد، ليس على يد الجالية اليهودية، وإنما بجهود شخصيات بارزة من المجتمع المسيحي الإنجيلي في منتصف القرن 19. وقد انطلق هؤلاء من إيمانهم بعقيدة مسيحية ترى أن "عودة" اليهود إلى فلسطين -كما كانوا يصفونها- هي بداية لبرنامج إلهي يفضي في نهايته إلى قيامة الأموات، وعودة يسوع المسيح، وإيذانًا بنهاية الزمان.
وقادت مجموعة من رجال الدين المسيحيين، بالتحالف مع شخصيات بريطانية نافذة شملت برلمانيين ومسؤولين حكوميين وكبار الصحفيين، حملةً في منتصف القرن 19 لدفع بريطانيا نحو ضم فلسطين إلى إمبراطوريتها، وتأسيس دولة يهودية فيها انطلاقًا من دوافع لاهوتية ودينية. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة بدت غير واقعية آنذاك، لكون فلسطين كانت لا تزال جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، فإنها زرعت البذور الأولى للمشروع المستقبلي.
أقام المبادرون المسيحيون تعاونًا مع شخصيات يهودية بارزة في بريطانيا، تزامنًا مع تبلور الفكرة ذاتها لدى النشطاء والمثقفين اليهود في روسيا. ورغم أن هؤلاء النشطاء تبنوا المبدأ المحوري نفسه، الداعي إلى مغادرة اليهود لأوروبا وتأسيس دولة لهم في فلسطين، فإنهم انطلقوا من منظور خاص بهم يختلف عن الدافع الإنجيلي المسيحي.
يُلاحَظُ أن المجموعتين المؤسستين للوبي الصهيوني المبكر -وهما المسيحيون الإنجيليون في بريطانيا، والنشطاء اليهود في الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية المجرية مثل تيودور هرتزل- لم تُوجِّها دعوتهما ليهود بريطانيا بالذهاب إلى فلسطين، بل انصبّ تركيزهما بشكل أساسي على ملايين اليهود القاطنين في وسط أوروبا وشرقها، الذين اعتبروا أن القارة الأوروبية لن تتسامح معهم ولن تقبلهم أبدًا كمتساوين، مما دفعهما لتبني فكرة نقلهم إلى فلسطين واستعمارها.
شهدت الفكرة الصهيونية تحولًا جوهريًا في تلك الفترة التأسيسية، إذ انتقلت من مجرد طرح ديني أو قضية يهودية أوروبية لتصبح مشروعًا سياسيًا. حدث هذا التحول بانضمام الإمبرياليين البريطانيين إلى التحالف القائم بين المسيحيين الإنجيليين وأوائل النشطاء الصهاينة، حيث رأوا في السيطرة على فلسطين فرصة لتوسيع إمبراطوريتهم على حساب الدولة العثمانية. وبذلك، اكتسبت الفكرة طابعًا عمليًا بعدما كانت غير واقعية، لأن أي مشروع في فلسطين كان مرهونًا بموافقة العثمانيين، لا البريطانيين.
قام هذا المشروع على تحالف ثلاثي الأركان: الأول تمثل في النشطاء الصهاينة في أوروبا، مع الإشارة إلى أنهم كانوا يشكلون أقلية ضئيلة لم تحظَ فكرتهم بقبول غالبية اليهود آنذاك. والركن الثاني تكوّن من المسيحيين الإنجيليين الذين شغلوا مناصب مهمة في بريطانيا. أما الركن الثالث فكان الإمبرياليين البريطانيين، الذين وجدوا في فكرة نقل يهود وسط وشرق أوروبا مبررًا للمساعدة في الاستيلاء على فلسطين من الإمبراطورية العثمانية وضمها إلى نفوذهم.
إلى أي مدى يمكن القول إن نجاح اللوبي الصهيوني مطلع القرن 20 لم يكن مجرد تحول استراتيجي بالانتقال إلى لندن، بل كان تأسيسًا لمنهجية ضغط شاملة تمزج بين تكتيكات مختلفة، يُعد أبرزها السيطرة المبكرة على المسار السياسي للمرشحين، والهندسة الإعلامية القائمة على التضليل، وتوظيف القوة المالية؟
إعلان
اتسمت جهود الضغط الصهيونية حتى مطلع القرن 20 بالتركيز على مراكز قوى مثل ألمانيا وإسطنبول، لكنها لم تحقق نجاحًا يذكر. وشهد عام 1900 نقطة تحول استراتيجية بانتقال مركز ثقل اللوبي الصهيوني بالكامل إلى لندن، حيث بدأ في استخدام أساليب مبتكرة ومؤثرة بدت معالمها واضحة منذ ذلك الحين.
اعتمد اللوبي في مقره الجديد تكتيكًا سياسيًا مبكرًا، فبدأ منذ عام 1900 بمخاطبة المرشحين في الانتخابات البريطانية مباشرةً. قام هذا التكتيك على مقايضة الدعم الانتخابي بالتزام المرشح بدعم المشروع الصهيوني في البرلمان، مع التهديد بدعم منافسه في حالة الرفض. استهدف هذا الأسلوب ضمان ولاء السياسيين منذ بداية مسيرتهم المهنية، ليكونوا أدوات طيّعة للوبي عند وصولهم إلى البرلمان أو تبوئهم مناصب عليا في السلطة.
عمد اللوبي كذلك إلى شن حملة إعلامية واسعة، حيث أغرق الصحافة البريطانية بالرسائل والمعلومات التي تخدم أهدافه. ولم يتردد في استخدام معلومات مضللة، كان أبرزها الترويج لفكرة أن فلسطين "أرض فارغة"، وبالتالي فإن تأسيس دولة يهودية فيها لا يمثل أي مشكلة. ولترسيخ هذه السردية، جُنِّد كتّاب بارزون -مثل جورج إليوت- لنسج أعمال أدبية تدعم هذه الرسالة المزدوجة؛ أن عودة اليهود إلى "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" تخدم المصالح الدينية والاستراتيجية الإمبريالية على حد سواء.
أدرك القائمون على اللوبي في وقت مبكر أن النفوذ السياسي وحده لا يكفي، وأن النجاح يتطلب موارد مالية ضخمة. وفي هذا السياق، نجحوا في تجنيد عائلات ثرية ونافذة، وعلى رأسها عائلة روتشيلد المصرفية. وبهذا، تأسست استراتيجيتهم المزدوجة منذ البداية على منهجي الترغيب والترهيب، فإما أن يتم إغراء الشخصيات المستهدفة بالدعم السياسي والمالي، أو يتم تهديدهم بتكبيدهم خسائر سياسية فادحة في حال عدم الامتثال.
إلى جانب عائلة روتشيلد، من هي أبرز الشخصيات التي كانت وراء تطور اللوبي الصهيوني المبكر؟ وكيف استثمرت الدوافع المتضاربة وحسمت تردد النخبة البريطانية عبر خطاب يمزج ببراعةٍ بين التضليل الاستراتيجي وتزييف الحقائق على الأرض؟
نعم، حقق اللوبي الصهيوني أحد أبرز نجاحاته وأكثرها إدهاشًا بتجنيد شخصية محورية هي آرثر بلفور. وتكمن المفارقة في أن بلفور عند انطلاق عمل اللوبي عام 1900؛ كان سياسيًا يعارض بشدة هجرة اليهود من أوروبا إلى بريطانيا. ففي تلك الفترة، لم تكن الصهيونية تشكل حلاً جذابًا لمعظم اليهود، خصوصًا في روسيا ورومانيا، الذين كانوا يعانون من تصاعد معاداة السامية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ويسعون بدلًا من ذلك إلى الهجرة نحو بريطانيا والولايات المتحدة بحثًا عن حياة أفضل. ومن هذا المنطلق المعادي للسامية، وجد بلفور في المشروع الصهيوني حلًا مثاليًا، فقد رأى أن دعم توجيه اليهود إلى فلسطين سيحول دون قدومهم إلى بريطانيا، وهو ما كان يرفضه بشدة.
تجلّت إحدى أبرز المفارقات في شخصية آرثر بلفور، فالرجل الذي سنّ قوانين في البرلمان البريطاني لمنع وصول اليهود إلى بريطانيا، هو نفسه الذي أصدر "وعد بلفور" مانحًا المشروع الصهيوني مباركة بريطانية لإقامة دولة يهودية في فلسطين.
برزت إلى جانبه شخصية مؤثرة أخرى هي اللورد شافتسبري، وهو سياسي وفاعل خير لم تكن دوافعه معادية للسامية بقدر ما كانت نابعة من رهاب الإسلام والعروبة. فقد كان يؤمن بضرورة خضوع منطقة المشرق بأكملها للحكم البريطاني ضمانًا لمصالح الإمبراطورية، وقد عزز من نفوذه ارتباطه برئيس الوزراء البريطاني آنذاك، اللورد بالمرستون.
امتد الانقسام حول المشروع الصهيوني ليصل إلى داخل العائلات اليهودية الأرستقراطية نفسها، ومنها عائلة روتشيلد التي انقسم أفرادها بين مؤيدين متحمسين ومعارضين شرسين للفكرة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شهدت تلك الفترة تأسيس "الرابطة اليهودية المعادية للصهيونية" على يد شخصيات يهودية نافذة عارضت المشروع بشدة.
طرح اليهود المعارضون للمشروع الصهيوني -على عكس الكثير من السياسيين البريطانيين المترددين- حجة أخلاقية واضحة ومبكرة. تمثلت هذه الحجة في التساؤل عن كيفية تصور دولة يهودية في أرض يسكنها شعب آخر، وهو ما شكّل جزءًا أساسيًا من اعتراضهم على المشروع منذ بداياته.
نجح اللوبي الصهيوني المكون من تحالف بين عائلات أرستقراطية يهودية ومسيحية وسياسيين، في تجنيد شخصيات مؤثرة، ويُعد أبرز نجاحاته استقطاب لويد جورج، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا لوزراء بريطانيا. وتكمن أهمية هذا النجاح في أن لويد جورج لم يكن لديه أي اهتمام يُذكر بفلسطين، حتى إنه وُصف بأنه "لا يعرف حتى أين يقع هذا المكان"، لكن تم تجنيده عبر شركة محاماة ذات ميول صهيونية كان يعمل بها قبل صعوده السياسي.
إعلان
يبرز في هذا السياق دور هربرت صموئيل، الذي كان مسؤولًا رفيع المستوى في الحكومة البريطانية، وقد فاق تأثيره ربما تأثير بلفور نفسه. فقد كتب صموئيل وثيقة حاسمة في عام 1915 -أي قبل عامين من وعد بلفور- بعنوان "مستقبل فلسطين"، ونجحت هذه الوثيقة في إقناع عدد كبير من الوزراء البريطانيين بضرورة دعم فكرة إقامة دولة يهودية في فلسطين.
اتسمت وثيقة "مستقبل فلسطين" بتزييفها الصارخ للواقع، حيث روّجت لانطباع مضلل بأن فلسطين أرض شبه خالية من السكان، وأن أهلها لن يعترضوا على إقامة دولة يهودية على أرضهم.
ولتعزيز حجتها، أضافت الوثيقة بُعدًا استراتيجيًا زعمت فيه أن بريطانيا بحاجة إلى فلسطين للدفاع عن قناة السويس في مصر. وقد اكتسب هذا الطرح أهميته من السياق التاريخي لعام 1915، حيث كانت الحرب العالمية الأولى على أشدها، وكانت القوات البريطانية والتركية تخوضان حربًا في سيناء، بينما كانت بريطانيا تحتل مصر بالفعل منذ عام 1882 بينما لا تزال فلسطين تحت السيطرة العثمانية. وبفضل هذا المزيج من التضليل والمبررات الاستراتيجية، أثبتت هذه الوثيقة فعاليتها الكبيرة، ونجحت في إقناع العديد من السياسيين البريطانيين بتبني المشروع الصهيوني ودعمه.

هل كان انحياز بريطانيا إلى المشروع الصهيوني مسارًا حتميًا لسياستها، أم أنه كان النتيجة المباشرة لتغلغل اللوبي الصهيوني في حسم الصراع الداخلي عبر إعادة تعريف "المصلحة الإمبريالية" لخدمة تصورهم عن "فلسطين اليهودية" على حساب رؤية "فلسطين العربية"؟
يجب التمييز بين هدفين مختلفين كانا يتنازعان داخل السياسة البريطانية. تمثل الهدف الأول في رغبة بريطانيا في ضم فلسطين إلى إمبراطوريتها، ولكن مع الحفاظ على طابعها العربي. وقد تبنى هذا الطرح مجموعة من المسؤولين البريطانيين البارزين، على رأسهم لورانس العرب. أما الدور الحاسم الذي لعبه اللوبي الصهيوني فلم يكن في خلق هذه الرغبة الإمبريالية، بل في إنجاح الهدف الثاني: وهو ألا تكون فلسطين بريطانية فحسب، بل يهودية وصهيونية أيضًا.
دعا التيار الإمبريالي الذي عارض المشروع الصهيوني، إلى تأسيس "عالم عربي بريطاني" لا مكان فيه للصهاينة، فقد كان لورانس العرب -بقربه من الهاشميين- يدعم بقوةٍ فكرة أن يحكموا ليس فقط العراق والأردن وسوريا، بل فلسطين أيضًا، ضمن مشروع "سوريا الكبرى" تحت قيادة الملك فيصل.
تمكّن اللوبي الصهيوني، بمساعدة حلفائه الأقوياء مثل آرثر بلفور وهربرت صموئيل، من هزيمة هذا التيار "العروبي" في عام 1915. ويتجلى حجم نجاحهم في تصريح رئيس الوزراء لويد جورج -الذي رغم قلة معرفته بفلسطين- صرّح باقتناع تام بأن "فلسطين يجب أن تكون يهودية لا عربية لحماية المصالح البريطانية في الغرب"، وهو التصريح الذي تبنى فيه حرفيًا ما لقّنه إياه اللوبي.
كيف تمكنت إسرائيل من تحويل حاجة فرنسا الاستعمارية في الجزائر إلى تحالف استراتيجي أثمر عن دعم عسكري وبرنامج نووي؟ وهل الدعم الفرنسي تجاوز ما كانت توفره الولايات المتحدة لإسرائيل حينها؟
سعت إسرائيل، منذ تأسيسها عام 1948 إثر النكبة، إلى بناء تحالفات استراتيجية لتأمين دعم عسكري ومالي ودبلوماسي. وقد اكتسب الدعم الدبلوماسي أهمية خاصة في ظل موجة التحرر من الاستعمار التي كانت تجتاح العالم غير الغربي آنذاك، حيث خشيت إسرائيل أن تثير الدول المستقلة حديثًا تساؤلات حول شرعية قيامها في فلسطين.
استفادت إسرائيل في سعيها لبناء تحالفات؛ من تمسك بريطانيا وفرنسا بمشاريعهما الاستعمارية والإمبريالية في الشرق الأوسط. ففي تلك الفترة، كانت بريطانيا تخوض صراعات للحفاظ على نفوذها في مصر والعراق، بينما كانت فرنسا تحاول يائسة التمسك بمستعمراتها في الجزائر وتونس والمغرب.
أدرك صناع السياسة الخارجية الإسرائيلية بذكاء إمكانية استغلال هذا الوضع، فعرضوا تأسيس تحالف مشترك. قامت فكرة التحالف على تعهد إسرائيل بمساعدة فرنسا في حربها بالجزائر، ومساندة بريطانيا في صراعها مع مصر. وقد تجسد هذا التحالف فعليًا في عام 1956، عندما شنت الدول الثلاث عدوانًا على مصر بهدف الإطاحة بالرئيس جمال عبد الناصر وتثبيت نظام موالٍ للغرب، وهي المحاولة التي باءت بالفشل.
بدأ التحالف الفرنسي الإسرائيلي في التداعي فعليًا قبل عام 1967، خلافًا للاعتقاد الشائع. تمثلت نقطة التحول الحاسمة في نجاح ثورة التحرير الجزائرية عام 1962، فبمجرد تخلي فرنسا عن الجزائر، تضاءلت حاجتها الاستراتيجية إلى إسرائيل، وقد انعكس ذلك في صعوبة متزايدة واجهتها إسرائيل في الحفاظ على علاقات جيدة مع الرئيس شارل ديغول. أما السبب في ربط نهاية التحالف بعام 1967 فيعود إلى أن انتقادات ديغول العلنية والحادة لإسرائيل لم تظهر إلا بعد حرب يونيو/حزيران من ذلك العام.
أثمر هذا التحالف تزويد فرنسا لإسرائيل بمعظم طائراتها العسكرية، لكن الأهم من ذلك هو المساعدة الفرنسية في المجال النووي. فبينما رفضت الولايات المتحدة دعم طموحات إسرائيل النووية، كانت فرنسا هي التي ساعدتها على بناء مفاعل ديمونا، وزودتها بالماء الثقيل اللازم لتشغيله.
جاء هذا الموقف الفرنسي مناقضًا تمامًا لسياسة الولايات المتحدة، حيث رفض رؤساؤها المتعاقبون -من ترومان وأيزنهاور إلى كينيدي وجونسون- فكرة امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية، رغم رغبتهم في اتخاذها حليفًا. ويُمكن تفسير الدعم الفرنسي بأنه كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعقلية فرنسا الاستعمارية، فطالما اعتبرت نفسها قوة استعمارية في شمال أفريقيا، رأت في إسرائيل حليفًا استراتيجيًا، وهو المنظور الذي تغيّر جذريًا بعد عام 1967.
هل كان انتقال اللوبي الصهيوني من لندن إلى واشنطن مجرد إدراك استراتيجي لأفول الإمبراطورية البريطانية، أم كان نقطة انطلاق لتأسيس منظومة نفوذ في تحويل يهود أميركا إلى قوة ضغط، والهيمنة على التشريعات في الكونغرس، والتأثير على مواقف الرؤساء أنفسهم؟
نعم، بالفعل أدرك ديفيد بن غوريون ببُعد نظر، في خضم الصدام مع بريطانيا حول مستقبل الانتداب عام 1942، أن نفوذ بريطانيا كقوة عالمية إلى أفول، وأن الولايات المتحدة هي القوة الصاعدة التي سترث مكانتها. وبحلول عام 1943، ترسخ هذا الفهم لدى قيادة الحركة الصهيونية في فلسطين ولدى اللوبي في بريطانيا، وشرعوا جميعًا في التحول استراتيجيًا نحو الولايات المتحدة باعتبارها الساحة الحاسمة لمستقبل إسرائيل.
واجه هذا التوجه الاستراتيجي تحديًا كبيرًا، إذ لم يكن بناء لوبي صهيوني فعال في الولايات المتحدة أمرًا سهلًا. ويُعزى السبب الرئيسي في ذلك إلى أن غالبية اليهود الأميركيين -حتى نهاية الحرب العالمية الثانية- لم يكونوا صهاينة. فبوصفهم مجتمعًا من المهاجرين الذين حققوا نجاحًا اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا باهرًا، شعروا بالانتماء والقدرة على تحقيق ذواتهم في الولايات المتحدة، وبالتالي لم يجدوا أي دافع لدعم فكرة تدعو اليهود إلى العيش في مكان آخر.
عَملَ اللوبي الصهيوني بجدٍّ على تحقيق هدف أساسي سبق إقناع صناع السياسة الأميركيين، وهو تحويل اليهود الأميركيين أنفسهم إلى وكلاء فاعلين لخدمة مصالح إسرائيل. ولتحقيق ذلك، لجأ اللوبي إلى استغلال الخوف الكامن لديهم من تكرار مأساة الهولوكوست، حيث روّج لفكرة أن إسرائيل تمثل "بوليصة تأمين" ضرورية لهم، تضمن لهم ملاذًا آمنًا إذا واجهوا كارثة مماثلة في المستقبل. وقد أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها في حشد دعم الجالية اليهودية.
انطلقت الحملة الرئيسية للوبي -بعد نجاحه في حشد قاعدة من النشطاء اليهود- بهدف أساسي وهو ضمان ولاء أميركي غير مشروط لإسرائيل. وقد اتخذ اللوبي منذ البداية قرارات استراتيجية صائبة، حيث تجاهل تمامًا المجتمع الأميركي ككل، وركز جهوده بشكل حصري على السياسيين الذين يملكون مستقبلًا واعدًا.
طوّر اللوبي في الولايات المتحدة أسلوبه الذي سبق أن طبقه في بريطانيا، فاعتمد على استهداف السياسيين في بداية مسيرتهم المهنية. قام هذا الأسلوب على دعمهم للفوز بالانتخابات، أو التهديد بدعم خصومهم، وهي الاستراتيجية التي أثبتت نجاحها. وكنتيجة لهذا الدعم المبكر، كان اللوبي يعود بعد سنوات ليذكّر هؤلاء السياسيين بفضل دعمه في بناء مسيرتهم، مطالبًا إياهم بدعم تلقائي وغير مشروط لأي تشريع يخدم مصالح إسرائيل في الكونغرس الأميركي بمجلسيه.
استغل اللوبي بنية إدارية قائمة في البيت الأبيض منذ الحرب العالمية الثانية، تمثلت في تقليد الرؤساء الأميركيين تعيين مستشارين متخصصين في شؤون الأقليات. وعمل اللوبي على ضمان أن يتحول المستشارون المعنيون بشؤون الجالية اليهودية إلى وكلاء لإسرائيل داخل الإدارة الأميركية، حتى وصف أحدهم دوره قائلًا: "كنت وزير خارجية إسرائيل غير الرسمي في البيت الأبيض".
وجّه اللوبي مع ذلك تركيزه الأساسي نحو الكونغرس (الكابيتول هيل)، مدركًا أن القرارات الحاسمة المتعلقة بالدعم المالي والعسكري والدبلوماسي لإسرائيل تُتخذ هناك عبر التشريعات، وليس من قبل الرئيس مباشرةً. وبذلك، كان استخدام المستشارين الرئاسيين تكتيكًا إضافيًا لضمان وقوف الرئيس إلى جانبهم، بينما بقيت جهود الضغط الرئيسية منصبّة على أعضاء الكونغرس.
لم تُحقق استراتيجية اللوبي نجاحًا مطلقًا في السيطرة على قرارات الرؤساء الأميركيين، إذ واجهت أحيانًا مواقف من رؤساء مثل جيمي كارتر، وباراك أوباما، وجورج بوش الأب، الذين اتخذوا إجراءات -ولو رمزية- لم ترضِ اللوبي. ورغم ذلك، لم يكن هذا الأمر مصدر قلق كبير لهم، لأن اهتمامهم الحقيقي وجهودهم الكبرى كانت منصبّة على الكونغرس.
امتدت جهود اللوبي لتشمل السيطرة على العقول والرأي العام، فاستثمر أموالًا طائلة في قطاعات الإعلام، والإنتاج السينمائي في هوليوود، والإذاعة، والتلفزيون. كما أدرك قوة الجامعات، فتدخل بشكل مباشر في طريقة تناول الأبحاث والمناهج الدراسية للقضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
يواجه اللوبي في العصر الحالي تحديًا يتمثل في التكنولوجيا الجديدة، حيث تبدو سيطرته على الإنترنت أقل بكثير من سيطرته على وسائل الإعلام التقليدية التي كان يمكن التحكم فيها سابقًا. ويصعب الآن التحكم في الفضاء الإلكتروني المفتوح، وهو ما قد يفسر تزايد المشاكل التي تواجهه اليوم.
في لحظة تأسيس "إسرائيل"، كيف تجاوزت أهداف اللوبي الرئيسية مجرد تحقيق نصرٍ دبلوماسي في الأمم المتحدة، لتصبح ركيزة أساسية في تحقيق التطهير العرقي بفلسطين، عبر استراتيجية قامت على الإكراه الدولي، والتسليح غير المتكافئ، وتحييد أي رد فعل عالمي؟
لعب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في تمرير قرار تقسيم فلسطين عام 1947، خصوصًا بعد فشل نظيره في بريطانيا في إقناع الحكومة البريطانية بدعم القرار، مما دفعها إلى الامتناع عن التصويت.
تجاوز التحدي الذي واجهه اللوبي مجرد تأمين الدعم الأميركي، ليصل إلى المهمة الأصعب المتمثلة في حشد أغلبية الثلثين اللازمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ولتحقيق ذلك، نجح اللوبي في دفع الحكومة الأميركية لممارسة ضغوط شديدة على دول مثل هايتي وليبيريا، التي كانت تميل أخلاقيًا إلى دعم الموقف الفلسطيني. وقد تضمنت هذه الضغوط تهديدات بقطع المساعدات المالية أو وعود بزيادتها مقابل التصويت لصالح التقسيم، وهو ما أجبر بعض ممثلي الدول على التصويت ضد قناعاتهم، حتى إن أحدهم توجه باكيًا إلى الوفد الفلسطيني معتذرًا بالقول: "لقد أجبرتني حكومتي على دعم القرار، لكنني ضده تمامًا".
عملَ اللوبي الصهيوني في بريطانيا وأميركا على مهمة حاسمة أخرى، تمثلت في ضمان امتلاك القوات الصهيونية للقدرة العسكرية الكافية لتنفيذ التطهير العرقي (نكبة 48) وعملياتها العسكرية اللاحقة. ولتحقيق ذلك، نشط اللوبي في شحن الأسلحة، القانونية وغير القانونية، إلى الجالية اليهودية في فلسطين. وقد جاءت صفة "غير القانونية" من وجود حظر رسمي فرضته الولايات المتحدة وبريطانيا على تصدير السلاح للجميع، عربًا ويهودًا، إلا أن هذا الحظر كان يُطبق بصرامة على العرب بينما يتم التغاضي عنه لصالح اليهود. وقد ضمن هذا الإجراء امتلاك القوات الصهيونية للتفوق العسكري اللازم للاستيلاء بالقوة على أكبر جزء ممكن من فلسطين، في عملية كان التطهير العرقي جزءًا منها.
على الرغم من أن العمليات العسكرية الإسرائيلية كانت العامل الحاسم في إنشاء دولة إسرائيل وتدمير فلسطين، فإن تنفيذها دون عوائق كان سيتعذر لولا الدور الذي لعبه اللوبي. فقد عمل اللوبي على ضمان عدم تدخل أي قوة في الولايات المتحدة أو أوروبا لوقف هذه الأعمال، خاصة أن أخبار التطهير العرقي الذي كان يجري في فلسطين كانت معروفة للعالم. وبالتالي، كانت هناك حاجة ماسة للوبي لمنع أي ضغوط قد تجبر الحكومتين الأميركية أو البريطانية على مطالبة إسرائيل بوقف ما ترتكبه من جرائم ضد الشعب الفلسطيني.
تراجعت الإدارة الأميركية للحظة عن دعمها لقرار التقسيم، بعدما أدركت وزارة خارجيتها أن الخطة لا تؤدي إلى السلام، بل إلى مزيد من إراقة الدماء وتمكين دولة إسرائيل المستقبلية من تنفيذ التطهير العرقي. وبناءً على ذلك، تم إقناع الرئيس ترومان بسحب دعمه، إلا أن اللوبي الصهيوني تحرك على الفور وبشكل حاسم، وأجبر ترومان أو أقنعه بالعدول عن قراره. ويُعد هذا التحرك إنجازًا بالغ الأهمية، بل ربما أعظم نجاحات اللوبي بعد تمكنه من تمرير قرار التقسيم نفسه.

بالعودة إلى اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، كيف نشأت "إيباك" (AIPAC) لتصبح ما هي عليه اليوم؟ وهل حقاً حاول السيناتور الشهير فولبرايت مواجهة نفوذها وفشل؟
قبل عام 1964، كانت جهود الضغط لصالح إسرائيل موزعة على عدة منظمات تفتقر إلى التنسيق فيما بينها، مما دفع المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة آنذاك، أبا إيبان، إلى إطلاق مبادرة لتوحيدها. وبمساعدة عدد من النشطاء الصهاينة، عمد إيبان في عام 1954 إلى تحويل إحدى المنظمات القائمة لتصبح هيئة جامعة تشرف على جميع المجموعات الأخرى، ومن هنا تأسست "إيباك" بين عامي 1954 و1955.
غير أن هذه الهيئة الجديدة واجهت عقبة قانونية كبرى، حيث كان الكونغرس الأميركي قد أصدر تشريعًا يمنع بشكل صريح ممارسة الضغط السياسي لصالح أي دولة أجنبية. وبموجب هذا القانون، كان من المسموح الضغط لخدمة مصالح الجالية اليهودية في أميركا، لكنه كان محظورًا تمامًا الضغط بشكل مباشر لصالح دولة إسرائيل.
لجأت "إيباك" إلى التحايل على القانون عبر الادعاء بأن نشاطها لا يمثل ضغطًا سياسيًا لصالح إسرائيل، بل هو مجرد حملة لجمع التبرعات للفقراء هناك. وكان جزء من هذه الأموال يذهب بالفعل للأعمال الخيرية، إلا أن معظمها كان يُعاد توجيهه من إسرائيل إلى "إيباك" لتمويل عملياتها الحقيقية في التأثير على الحكومة الأميركية، وهي الممارسة التي لم يجرؤ أحد على مساءلتها لاحقًا بعدما أصبحت المنظمة بالغة النفوذ.
في عام 1962، تحدى السيناتور الأميركي القوي جيمس ويليام فولبرايت، الذي كان يترأس آنذاك لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، نفوذ "إيباك". صرح فولبرايت علنًا بأن المنظمة تعمل منذ 8 سنوات كلوبي لدولة أجنبية، وهو ما يخالف القانون الأميركي. وكان الرد على هذا التحدي تدميره سياسيًا، حيث عمل اللوبي على إسقاطه في الانتخابات عبر دعم خصومه، منهيًا بذلك مسيرته السياسية. وبعد هذه الحادثة، لم يجرؤ أي سياسي آخر على اتهام "إيباك" بانتهاك القانون، بل أصبحت المنظمة من القوة بحيث لا يجرؤ أحد على المطالبة بتفكيكها أو حتى مواجهتها في قضايا سياسية كبرى، كما ظهر جليًا في الصدام بينها وبين إدارة أوباما بشأن الاتفاق النووي الإيراني.
من الجدير بالذكر أنه عندما كان فولبرايت رئيسًا للجنة، كان جو بايدن سيناتورًا شابًا قد بدأ لتوه مسيرته السياسية. ورغم غياب الإثبات القاطع، فمن المرجح أن بايدن استوعب الدرس جيدًا كسياسي مبتدئ وأدرك حينها القوة الحقيقية للوبي. وهذا الفهم المبكر قد يفسر الكثير من سلوكه لاحقًا، لا سيما خلال أحداث الإبادة الجماعية الأخيرة.

كيف صاغ اللوبي الرواية الأميركية لحرب 1967، ليس فقط عبر إجهاض المسار الدبلوماسي الذي كانت تفضله واشنطن ودفع المنطقة نحو الحرب، بل أيضا بتحويل نتائجها إلى مكاسب استراتيجية دائمة تضمن دعمًا عسكريًا وماليًا أميركيًا للاحتلال؟
نعم، هذا سؤال وجيه، فقد كانت وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية في الولايات المتحدة على قناعة تامة بوجود حل سلمي قبل 5 يونيو/حزيران 1967. لقد كانوا على تواصل مباشر مع جمال عبد الناصر، وأيقنوا أن هناك سبيلاً لبدء عملية دبلوماسية من شأنها أن تخفف من حدة التوترات على الحدود، مما ينتفي معه أي داعٍ للمواجهة العسكرية.
وقد أثار هذا الأمر قلق إسرائيل بشدة، إذ أرادت استغلال هذا الوضع المتوتر لتحقيق حلم وزرائها آنذاك بالاستيلاء على "إسرائيل الكبرى"، وتحديداً الضفة الغربية وغيرها. لذلك، كان على اللوبي الإسرائيلي إقناع الرئيس جونسون بأن تقارير خبرائه كانت تفتقر إلى الدقة.
كان هذا التحرك حاسماً، لأن رئيس وكالة المخابرات المركزية، كما تُظهر الوثائق المتاحة للعموم، استمر في إبلاغ الرئيس بإمكانية نزع فتيل الأزمة، مؤكداً عدم وجود ضرورة للحرب. من هنا برز الدور المحوري الذي لعبه اللوبي في الدفع نحو هذا المسار قبل اندلاع الحرب.
أما خلال الحرب، فبالنظر إلى قصر مدتها، ليس هناك الكثير ليُقال. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى نظرية مؤامرة متداولة في العالم العربي، تبناها البعض مثل حسنين هيكل، ومفادها أن القوات الجوية الأميركية وفّرت غطاءً جوياً لإسرائيل، وهو ما مكّنها من تدمير القوات الجوية العربية بأكملها.
بصفتي مؤرخاً، ورغم أن المؤامرات قد تكون صحيحة أحياناً، فقد بحثت جاهداً عن أدلة تثبت هذه النظرية لكنني لم أجد شيئاً.. لا أنفي إمكانية حدوث ذلك بالمطلق، ولكني أؤكد أني لم أعثر على أي دليل مادي يدعم هذا الادعاء.
لكن الأمر الذي لا يقل أهمية، هو أنه فور وضع الحرب أوزارها، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا كبيرة على إسرائيل، وجاء ذلك بإيعاز من بريطانيا وفرنسا، وكذلك الاتحاد السوفياتي وبعض الدول العربية الكبرى. كان الهدف من هذه الضغوط هو حمل إسرائيل على الإعلان صراحةً بأن الأراضي التي احتلتها لن تُضَم إليها، وأنها ستكون أساسًا للمفاوضات، مع الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات أحادية الجانب من شأنها تغيير الواقع في كل من القدس الشرقية، ومرتفعات الجولان، وسيناء، والضفة الغربية.
وقد استخلصت الحكومة الإسرائيلية درسًا بليغًا بفضل جهود "إيباك"، وهو درسٌ ندركه جميعًا اليوم ونحن نراقب السياسة الأميركية: العبرة ليست بما يقوله الأميركيون، بل بما يفعلونه. فقد قدّمت "إيباك" تطمينات للحكومة الإسرائيلية مفادها أنه حتى لو أعلنت واشنطن معارضتها لضم القدس أو مرتفعات الجولان، أو رفضها لبناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن كل ذلك يظل بلا قيمة، لأن "إيباك" ستتكفل بتجريد هذه الكلمات من أي أثر فعلي، وتضمن ألا تتبعها أي إجراءات ملموسة على أرض الواقع.
لقد نجحت "إيباك" في إيصال رسالة جوهرية لطمأنة الحكومة الإسرائيلية، تمحورت حول ضرورة عدم الاكتراث بالخطاب الذي يتبناه صانعو السياسة الأميركيون. فالعبرة الحقيقية تكمن فيما يُسنّ من تشريعات في الكونغرس، وما يصدر عن الرئيس من أوامر تنفيذية، وهي الأمور التي تعهدت "إيباك" بأن تضمن على الدوام أنها لن تتعارض أبدًا مع المصالح الإسرائيلية.
لقد نجح اللوبي أيضًا، خصوصًا مع الرئيس جونسون بعد عام 1967، في جعل الولايات المتحدة المورّد الرئيسي للسلاح إلى إسرائيل، مستفيدا من المشاكل التي ذكرناها سابقًا مع فرنسا. ويكمن نجاحه الأكبر في هذا السياق في ضمان أن تحصل إسرائيل، إلى جانب الجيش الأميركي وحلف شمال الأطلسي، على أحدث الأسلحة الأميركية بشكل حصري.
في هذه الفترة تحديدًا، أدرك اللوبي ضرورة العمل على إقرار الكونغرس لمساعدات عسكرية سنوية لإسرائيل لا تقل عن 3 مليارات دولار. لم يكن هذا الإنجاز وليد لحظة، بل نتاج عمل دؤوب ومستمر، هدف أولًا إلى تحييد أي معارضة محتملة، وهو ما تحقق بسهولة، ثم ترسيخ هذا الدعم ليصبح التزامًا أميركيًا سنويًا شبه تلقائي.

كيف أدى تحالف نتنياهو مع الصهاينة المسيحيين إلى تحويل اللوبي من داعم لإسرائيل إلى أداة حزبية لليمين الإسرائيلي، عملت بفعالية على إجهاض عملية السلام؟
لقد لعب اللوبي دورًا لافتًا ومحوريًا، فمع انطلاق عملية السلام بشكل جدي في التسعينيات، كان قد أصبح شديد الانحياز إلى اليمين الإسرائيلي، لدرجة أنه بات يعتبر اليسار الليبرالي في إسرائيل خصمًا له.
نتيجةً لذلك، وخلال فترتي الحكم القصيرتين لكل من إسحاق رابين (1992-1995) وإيهود باراك (1999-2001)، عمل اللوبي بفاعلية ضد عملية السلام المنبثقة عن اتفاق أوسلو. ففي الوقت الذي اعترفت فيه الإدارة الأميركية -الرئيس ووزارة الخارجية- بمنظمة التحرير الفلسطينية ككيان شرعي، وبدأ فيه الرأي العام الأميركي يميل إلى التعاطف مع الفلسطينيين، خاصة بعد الانتفاضة الأولى، كان اللوبي يمارس ضغوطًا داخل الكونغرس للحيلولة دون الاعتراف بالمنظمة.
لم يكن عمل اللوبي وثيقًا مع الحكومة الإسرائيلية بشكل عام، بقدر ما كان مع حزب الليكود تحديدًا. أما التحول الأهم، فقد بدأ عام 1992 على يد بنيامين نتنياهو، الذي كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية آنذاك، قبل توليه رئاسة الوزراء لأول مرة عام 1996.
لقد أقام نتنياهو تحالفًا كان معلمُه مناحيم بيغن يعارضه بشدة، حيث قرر بناء جسور مع الصهاينة المسيحيين. وحين سألهم: "ما هو طلبكم لتصبحوا جزءًا فاعلًا في اللوبي الداعم لإسرائيل؟"، كان ردهم: "سلفك، مناحيم بيغن، منعنا من إنشاء مراكز للتبشير بالمسيحية في القدس.. نريد الآن مركزًا كبيرًا هناك لنشر دعوتنا". فوافق على الفور قائلًا: "حسنًا، لكم ذلك". وفي المقابل، طلب منهم دعمًا مطلقًا وغير مشروط.
يشكّل الصهاينة المسيحيون، كما هو معلوم، جزءًا لا يتجزأ من الحزب الجمهوري، وتحديدًا من جناحه الأكثر تشددًا ويمينية. وقد كان لهذا التحالف تداعيات مباشرة، إذ دفع العديد من الشخصيات البارزة والمؤيدة للحزب الديمقراطي داخل "إيباك" إلى مغادرة المنظمة.
لقد أدرك هؤلاء الأعضاء المنسحبون أن "إيباك" لم تعد تعمل كلوبيٍّ لإسرائيل بمفهومها الشامل، بل تحولت إلى أداة ضغط تخدم أجندات حزب الليكود، والأحزاب اليمينية في إسرائيل، والصهاينة المسيحيين حصرًا.
من المعلوم أنه منذ عام 2001، وبشكل متواصل تقريبًا منذ عام 2009، يتولى حزب الليكود السلطة في إسرائيل. وعليه، فإن اللوبي الآن لا يعمل لصالح الليكود فحسب، بل لصالح دولة إسرائيل التي يقودها هذا الحزب.
ومع ذلك، وبغض النظر عن رأيي الشخصي في مدى جدية اتفاق أوسلو كعملية سلام حقيقية، أستطيع القول إنه حتى لو كانت له أي فرصة للنجاح، فقد تكفّل اللوبي بإجهاضها تمامًا.
في مواجهة خسارته لمعركة الرأي العام، خاصة في الجامعات ولدى جيل الشباب، كيف يكشف لجوء اللوبي إلى استخدام القوة التشريعية ضد حركات التضامن مفارقة وجودية، حيث لم يعد نفوذه على النخب السياسية كافيًا لضمان هيمنته؟
تمثّلت المعضلة الرئيسية التي واجهها اللوبي في القرن 21، في أنه رغم حفاظه على سيطرته المُحكمة على النخبة السياسية ووسائل الإعلام التقليدية، فقد اصطدم بتأثيره المحدود للغاية على صعيد المجتمع المدني.
فهذا المجتمع بات يستقي معلوماته بشكل أساسي من وسائل التواصل الاجتماعي ومصادر الإعلام المستقلة، مما أدى إلى نشوء حركة تضامن قوية ومؤيدة للفلسطينيين. وهنا يكمن الفارق الجوهري، فطريقة التعامل مع سياسي قد تعتمد مسيرته المهنية على دعم اللوبي، تختلف كليًا عن طريقة التعامل مع طالب أو أستاذ جامعي أو نقابي مستقل. لذلك، عندما حاول اللوبي تطبيق أساليبه القديمة نفسها على هذه الفئات، باءت محاولاته بالفشل.
لجأ اللوبي خلال الأعوام 15 أو 20 الماضية إلى محاولة استصدار قوانين وتشريعات من الولايات أو المدن الكبرى ضد أنشطة التضامن مع فلسطين. يأتي هذا التحرك بعد أن فشلوا في حشد حركة شعبية مضادة على الأرض، وكان إخفاقهم الأكبر -بالمناسبة- في أوساط جيل الشباب اليهودي، الذي لم يعد كثيرون منه يؤيدون إسرائيل، بل إن بعضهم أصبح ناشطًا في حركة التضامن مع الفلسطينيين، وهو ما يمثل أكبر هزيمة للوبي.
لهذا السبب، يحاولون الآن توظيف القوة، ليس فقط من خلال المال والترهيب السياسي، بل عبر القنوات التشريعية. ونتيجة لذلك، سنت بعض الولايات الأميركية قوانين ضد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). وبالطبع، عند كتابتي للكتاب، لم أكن أتوقع المدى الذي سيصل إليه الرئيس ترامب في كونه حليفًا استثنائيًا للوبي، فهو يساعدهم الآن بطريقة مختلفة، ولا شك أنهم يشعرون بأنهم استعادوا زمام المبادرة.
لكني أرى أن هذا الوضع لن يدوم طويلًا، فترامب لن يبقى في السلطة إلى الأبد. وفي تقديري، لقد خسر اللوبي معركة كسب المجتمع الأميركي، حتى وإن كان لا يزال يحظى بدعم النخبة السياسية اليمينية.
لقد حشدوا أعدادًا كبيرة، خاصة من الطلاب الإسرائيليين الدارسين في أميركا، في محاولة للهيمنة على الفضاء الإلكتروني. لكن الفضاء الرقمي -بطبيعته- هو ساحة تتفوق فيها الحجج المنطقية والأخلاقية على الإغراءات المالية أو أساليب الترهيب، وهي الحجج التي يفتقرون إليها تمامًا.
لهذا السبب، كان أداؤهم في هذا المجال ضعيفًا، وقد خسروا معركة الجامعات والحرم الجامعي بشكل واضح. فبعد أن كانت "إيباك" تهيمن على الجامعات الأميركية في عام 1967، فقدت هذه السيطرة الآن. أما محاولاتهم الحالية للضغط على إدارات الجامعات من أجل قمع الأكاديميين والطلاب، فهي بدورها محاولات فاشلة.

هل يمكن لشخصيات مثل بن شابيرو، عبر الإعلام الجديد، أن تنجح في استهداف الشباب الذين يفتقرون إلى المعرفة التاريخية العميقة وإعادة تشكيل وعيهم لدعم السردية الصهيونية؟
لا أعتقد أنهم سينجحون في مسعاهم.. ربما تنجح جهودهم مع الشباب الصهاينة المسيحيين، لكنني أرى أن معظم الشباب اليوم باتوا أكثر نقدًا في تعاملهم مع المعلومات. وشخصيات مثل بن شابيرو وغيره قد يحظون بمتابعة في قضايا لا تتعلق بإسرائيل، لكن تأثيرهم على آراء الشباب بخصوص القضية الإسرائيلية والصهيونية يبقى محدودًا جدًا.
أعتقد أن إسرائيل خسرت المعركة الأخلاقية بشكل حاسم، وهنا يبرز السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كبشر: هل للأخلاق مكانة مركزية في السياسة؟ للأسف، الإجابة هي لا. فإسرائيل لم تخسر المعركة المالية أو العسكرية، لكنها خسرت المعركة الأخلاقية. والمستقبل وحده كفيل بأن يكشف لنا -ليس فقط كإسرائيليين أو فلسطينيين أو عرب، بل كجنس بشري- ما إذا كانت الأخلاق مهمة حقًا. فإذا غابت الأخلاق، فنحن محكومون بالهلاك.. إننا بحاجة إلى منظومة قيم، سواء تمثلت في القانون الدولي أو في حسّنا الإنساني المشترك، وهي المعركة التي خسرتها إسرائيل.
لا تملك "إيباك" ما تقدمه في هذا المضمار، فكل ما لديها هو المال والنفوذ السياسي. لكن السؤال الجوهري يبقى: من سينتصر مستقبلا في معركة تعريف ماهية السياسة: أهي مجرد صراع على المال والسلطة، أم أنها تدور أيضًا حول المبادئ والقيم؟ والإجابة على هذا السؤال، في اعتقادي، هي ما سيحدد مصير الوضع في فلسطين.
كيف يمكن فهم الصراع بين "إيباك" و"جي ستريت"؟ وهل يمثل الفرق بينهما -من وجهة نظرك- الفرق ذاته بين "المستعمر اليميني" و"المستعمر اليساري"؟ وما هو المأزق الذي يجسده "جي ستريت" كنموذج لهذا "المستعمر اليساري"؟
نشأت منظمة "جي ستريت" بشكل أساسي من كونها مؤيدًا قويًا لعملية السلام واتفاق أوسلو، وسعت لتأسيس لوبي مضادٍّ يمثل اليسار في إسرائيل، وهو دور لا تزال تسعى لأدائه. وبناءً على ذلك، فإنها ترى "إيباك" منافسًا لها وتختلف مع الكثير من توجهاتها وسياساتها.
أما مشكلة "جي ستريت" فهي في جوهرها مشكلة اليسار الصهيوني عمومًا. وكما أقول لطلابي دائمًا، فإن قراءة كتاب ألبير ميمي "المستعمِر والمستعمَر" ضرورية، لما يقدمه من وصف مذهل لما يسميه "المستعمِر اليساري"؛ ذلك المستعمر الذي يرغب في التوفيق بين وضعه كمستعمر وبين تمسكه بالقيم العالمية كالاشتراكية أو الليبرالية.
أرى أن "جي ستريت" -شأنها شأن اليسار الصهيوني- تقدم طرحًا منفصلًا عن الواقع على الأرض. فالواقع، كما كنت أقول لسنوات، لا يقدّم سوى خيارين لا ثالث لهما بين النهر والبحر: إما دولة فصل عنصري يهودية، أو دولة ديمقراطية حرة للجميع.. لا يوجد حل وسط، لكن "جي ستريت" واليسار الصهيوني ما زالا يعتقدان بوجود هذا الحل الوسط.
إنه قرار صعب، وأنا لا ألوم الإسرائيليين، فليس من السهل التخلي عن الامتيازات والهيمنة، لكن استمرارهم على هذا النهج، كما رأينا في العامين الماضيين، يقود إلى مسار محدد وواضح. في النهاية، أرى أن "جي ستريت" تمثل رغبة نبيلة من اليسار الصهيوني في تبني سياسة أميركية داعمة للسلام، لكن السلام الذي يتحدثون عنه غير قابل للتطبيق، لأنه لا يعالج جوهر المشكلة الحقيقية.
0 تعليق