أرونداتي روي: ما يحدث في غزة إبادة جماعية - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم تَعُد الكاتبة الهندية الشهيرة أرونداتي روي مجرد روائية عالمية، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى صوت ضمير يلاحق صمت العالم. فقد استثمرت ظهورها وكتاباتها لتوجيه رسائل مباشرة ضد الحرب على غزة، من مقالات صحفية إلى خطابات جوائز وصولا إلى حفل إطلاق كتابها الجديد، وقد ركزت على وصف ما يجري في القطاع بأنه "إبادة جماعية" و"معسكر اعتقال"، وانتقدت الدعم الغربي والإقليمي لإسرائيل.

في حفل إطلاق كتابها الجديد "حين تزورني مريم" (Mother Mary Comes to Me) الذي أقيم في 3 سبتمبر/أيلول الجاري بكلية سانت تيريزا في ولاية كيرالا، لم تتحدث الكاتبة الهندية الشهيرة والحائزة جائزة البوكر أرونداتي روي عن تجربتها الأدبية فحسب، بل استثمرت المنصة لتوجيه رسالة سياسية وأخلاقية قوية بشأن الحرب على غزة.

قالت روي أمام جمهور من القراء والطلاب إن "الولايات المتحدة تساعد في أكبر إبادة جماعية في التاريخ بثروتها، بينما تساعد الهند بفقرها"، مضيفة أن الضرائب التي يدفعها المواطنون الهنود قد تُستخدم بطريقة غير مباشرة في تمويل الحرب الإسرائيلية. وأكدت "لا أستطيع أن أشارك في أي منتدى دون أن أعلن تضامني مع غزة".

موقف روي الصريح من فلسطين ليس جديدا. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، وصفت غزة بأنها "معسكر اعتقال" يشهد تدميرا شاملا لمستشفياته وجامعاته وبيوته. وانتقدت في مقالات وتصريحات عدة الدعم الغربي لإسرائيل، معتبرة أن "أغنى دول العالم تموّل وتبارك هذه الإبادة الجماعية".

لم تأتِ كلمات أرونداتي روي من فراغ، ولا يمكن قراءة موقفها كتعاطف عابر مع فلسطين. إنها ابنة تجربة طويلة في مواجهة الاستعمار والحروب الإمبريالية منذ روايتها الأولى "إله الأشياء الصغيرة" (1997)، حيث أهدت الأدب الهندي والعالمي نصا يمتح من التاريخ والذاكرة والمقاومة. لكن روي سرعان ما تجاوزت حدود الرواية إلى الفعل السياسي المباشر، لتصبح واحدة من أبرز الأصوات التي تربط بين الأدب والالتزام الأخلاقي. وعلى مدى ربع قرن، كتبت ضد الحروب الإمبريالية الأميركية، وانتقدت صعود القومية الهندوسية في بلادها، ووضعت فلسطين في قلب خطابها المناهض للاستعمار.

إعلان

هذا الامتزاج بين السيرة الذاتية والموقف السياسي يشي بأن الكتابة عند روي ليست انعزالا في الجماليات، بل وسيلة لربط الذات بالعالم. فكما كانت علاقتها بأمها مأوى وعاصفة، فإن علاقتها بفلسطين تعكس إدراكها بأن الحرية لا تتجزأ، وأن القمع هنا وهناك متشابك بخيوط غير مرئية.

غلاف رواية إله الأشياء الصغيرة
غلاف رواية إله الأشياء الصغيرة (مواقع التواصل الاجتماعي)

غزة… المعسكر الذي فضح العالم

وكانت روي قد كتبت من نيودلهي ما يشبه البيان في 7 مارس/آذار 2024، فقالت "لقد تحوّل قطاع غزة إلى معسكر اعتقال… لقد تم تهجير كامل سكان القطاع تقريبا؛ منازلهم، مستشفياتهم، جامعاتهم… تحولت إلى أنقاض."

ولم يكن هذا وصفا تقنيا لحرب، بل صرخة ضمير تعرّي العالم المجبول بصمت قاتل. وتضيف بحدة "أغنى وأقوى دول العالم… تموّل علنا وتصفّق لإبادة إسرائيل الجماعية في غزة."

هنا تضع روي إصبعها على جرح آخر، فليس الاحتلال وحده من يصنع المأساة، بل صمت الدول الكبرى التي تموّل الإبادة وتباركها. بالنسبة لها، الصمت ليس حيادا بل شكلا من أشكال التواطؤ.

الكلمة ترفض المعادلة الزائفة

وفي خطابها بمناسبة جائزة "بن بنتر" (PEN Pinter) عام 2024، أعلنت رفضها لأي مساواة بين الضحية والجلاد وقالت "أرفض لعبة الإدانة المتوازية… لا أقول للمضطهدين كيف يقاومون". هذا الموقف يعكس رؤية واضحة ترفض الحياد المزيّف وتؤكد على ضرورة الوقوف إلى جانب المضطهدين دون فرض شروط على مقاومتهم.

هنا تتجلى فلسفة روي، وملخصها أن المثقف لا يُملي على الشعوب المضطهدة كيف تدافع عن نفسها، بل يقف معها بلا شروط. هذه الرؤية تنسجم مع خطها الفكري الذي طالما انتقد "الإملاءات الأخلاقية" التي يستخدمها الغرب لترويض قضايا التحرر.

وفي مقالها الشهير على موقع "مستر أونلاين" (MR Online)  بعنوان "لا دعاية على وجه الأرض يمكن أن تخفي جرح فلسطين"، أكدت روي أن السردية الإسرائيلية قد بدأت تفقد تأثيرها وقوتها في العالم. فقد كتبت "ليس كل المال والسلطة قادرا على إخفاء الجرح الذي هو فلسطين. الجرح يظل مكشوفا أمام العالم، مهما كان حجم الدعاية." هذا التصريح يُبرز إيمانها بأن الحقيقة المطلقة للصراع الفلسطيني ستنتصر في النهاية على كل محاولات التضليل.

الجرح هنا ليس مجازا بل حقيقة دامية، تكشف عن هشاشة الهيمنة مهما تزينت بالدعاية. بالنسبة لها، فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل علامة كونية على الظلم الذي لا يندمل إلا بالعدالة.

بهذا المعنى، تمثل أرونداتي روي نموذجا نادرا في الأدب المعاصر، إنها كاتبة تجعل من النص جدارا ضد الطمس، ومن الموقف الثقافي مقاومة علنية. في عالم تكثر فيه التبريرات ويغيب فيه الصوت الحر، تذكّرنا روي بأن الأدب ما زال قادرا على أن يكون ضميرا كونيا. غزة بالنسبة لها ليست جرحا بعيدا، بل امتحانا لإنسانيتنا جميعا.

ولم تتردد روي في وصف الوضع في غزة بكلمات قوية ومباشرة، حيث وصفتها في مقالتها التي نشرها الموقعان الإخباريان الأميركي "كومن دريمز" (Common Dreams) والهندي "سكرول إن" (Scroll.in) بأنها "معسكر اعتقال". وأضافت في المقال ذاته "شُرد تقريبا كل سكان غزة. بيوتهم ومستشفياتهم وجامعاتهم دُمرت إلى أنقاض." هذه الكلمات الصريحة لم تكن مجرد وصف للدمار المادي، بل كانت أيضا صدمة أخلاقية تهدف إلى كسر حاجز الصمت الدولي.

the book of dissent cover
غلاف "كتاب العصيان" وهو مختارات جماعية (أنطولوجيا) عن أصوات التمرد والاحتجاج عبر التاريخ، وقد احتوى على مساهمة من أرونداتي روي، التي تصدرت الغلاف بسؤالها اللافت: "هل ما زالت الديمقراطية ديمقراطية؟" (مواقع التواصل الاجتماعي)

أصداء الموقف

قُوبلت مواقف روي بردود فعل متباينة، مما يعكس الانقسام العميق حول القضية الفلسطينية في الأوساط الثقافية والسياسية. ففي المجتمع الأدبي، حظيت مواقفها بترحيب واسع من قِبل العديد من الكتاب والناشرين، خاصة في الهند والغرب، الذين اعتبروا كلمات روي امتدادا لتقليد الأدب الملتزم. وقد تم تداول خطابها على نطاق واسع في الصحافة البديلة واليسارية، حيث رُحب بها كصوت للضمير العالمي الذي لا يخشى قول الحقيقة. وقد عزز هذا الموقف مكانتها بين الأصوات الأدبية العالمية المدافعة عن فلسطين، وأكد أن الكتابة الملتزمة لا تزال قادرة على إحداث صدمة أخلاقية في زمن الرقابة.

إعلان

في المقابل، واجهت روي انتقادات حادة وهجوما عنيفا من دوائر إعلامية محافظة في الهند، حيث اتُهمت بـ"تسييس الأدب" و"تشويه صورة البلاد". وصلت هذه الانتقادات إلى الأروقة الحكومية، حيث صدرت دعوات في البرلمان الهندي لمساءلتها عن تصريحاتها التي انتقدت فيها علاقة الهند بإسرائيل. وتُظهر هذه الضغوط السياسية بوضوح كيف أن مواقف روي لم تبقَ حبيسة الأوساط الأدبية، بل امتد تأثيرها إلى النقاش السياسي العام.

طريق بين الركام

بالنسبة لكثيرين، فإن روي تمثل نموذجا للمثقف الملتزم الذي يرى في الكتابة واجبا أخلاقيا لا يقل أهمية عن الأدب نفسه. وفي عالم يعج بالصمت الرسمي، بدا صوتها في كيرالا صدى بعيدا لصرخة غزة، يذكّر بأن الكلمة قادرة أن تشق طريقها بين الركام.

الكُتاب الكبار ليسوا مجرد صُنّاع جُمل جميلة، بل يتحولون إلى ضمير جمعي، إلى شهود وفاعلين في زمن يميل إلى التواطؤ والنسيان. وهذه الروائية الهندية التي جاءت من أقصى الجنوب الآسيوي، رفعت صوتها من نيودلهي حتى رام الله، كأن فلسطين وطنها، وكأنها تعرف المخيمات وأزقتها كما يعرفها أهلها. لم تكتفِ أن تكتب رواية جميلة أو بحثا أكاديميا، بل وقفت لتذكّر العالم أن هناك شعبا يُسحق أمام شاشاته، وأن الكلمات يمكن أن تكون جدارا آخر، هذه المرّة ليس من أسمنت وحديد، بل من ضمير ووجع مشترك.

حملت أرونداتي روي صوت فلسطين كواجب أخلاقي لا يتجزأ من مشروعها الأدبي. ولم تكن كاتبة جوائز فقط، بل مثقفة تدرك أن الأدب لا ينفصل عن العدالة.
وفي مقالاتها ومداخلاتها الأخيرة حول غزة، لا تكتب روي بلغة المحايد الأكاديمي، ولا بلغة المفاوض الحذر؛ بل بلغة الأم التي ترى طفلا يُسحق تحت الركام، والإنسان الحر الذي يعرف أن الاستعمار لا يتغير إلا بالمقاومة.

هاجمت روي الاحتلال الإسرائيلي بجرأة، ورأت في غزة مرآة لكل تاريخ الاستعمار الغربي، من الهند إلى العراق إلى فلسطين. وكأنها تعيد صدى أصواتنا التي يُراد لها أن تخفت، لتقول من هناك إن العدالة لا تتجزأ، وإن صمت العالم جريمة لا تقلّ عن القصف نفسه.

0 تعليق