كتبت بديعة زيدان:
في صبيحة السابع من تشرين الأول 2023، استيقظ توفيق، نجل الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو، على غير عادته في منزله بالطابق الرابع عشر في برج "الظافر 2"، بحي الرمال في مدينة غزة، حيث لم تكن تلك أصوات رعد شتوي كما ظن للوهلة الأولى وهو يطل على ميناء غزة، بل كانت أصوات صواريخ تعلن عن بداية حرب ستغير كل شيء.. يقول توفيق: "عرفت من البداية أن هذه الحرب ليس كتلك الحروب التي سبقتها".. هذا الإحساس المبكر كان الشرارة التي أشعلت رحلة ملحمية لإنقاذ ما هو أثمن من المال والممتلكات، إنقاذ ذاكرة والده وتاريخه وإرثه الثقافي.
ولعائلة بسيسو كبقية عائلات غزة طقوسها في مواجهة الحروب المتكررة، وتمحورت في السابق، حول حقيبة جاهزة بجانب الباب، لا تحتوي ملابس أو طعاماً، بل كانت بمثابة أرشيف متنقل يضم كل وثيقة مهمة، من شهادات الحضانة لابنيه جيفارا ومعين، وصولاً إلى أوراقهما المدرسية الحالية، وجوازات سفر العائلة وأوراقهم الثبوتية، لكن هذه المرّة، شعر توفيق بأن الأمر يتجاوز مجرد حماية الأوراق أو إنزال اللوحات الفنية عن الجدران خشية اهتزاز المبنى، وأن الإخلاء الكامل هو السيناريو الأقرب.
كانت شقة العائلة أشبه بمتحف يخلّد حياة معين بسيسو بحيث شكلّت تاريخاً حيّاً، ما بين مخطوطات نادرة ونسخ عتيقة من مؤلفات الشاعر الأيقوني وتحف جمعها من مختلف أنحاء العالم، وهدايا تلقاها، على مدار سنيّ عمره، بينها أقلام ومحبرة وكسارة البندق خاصته، وغيرها، علاوة على ما يقارب عشرين لوحة فنية، لم تكن هدايا بالمعنى التقليدي، بل أعمالاً لفنانين عالميين وعرب أحبوا رسم معين بسيسو، من أوزباكستان وروسيا، مروراً بالفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل، والفنان السوري نذير نبعة، والفنانين رفيق شرف ومها بيرقدار من لبنان، وغيرهم.
في لحظة فارقة، وكما أشار في حديث خاص لـ"الأيام"، من حيث يقيم الآن في العاصمة الأردنية عمّان، اتخذ توفيق قراراً حاسماً بوضع الحقائب السبع التي ضمت كافة مقتنيات والده، واللوحات التي لفها بسجاد فارسي ثمين، لدى حارس البرج، فقام الأخير بوضعها في غرفة "تحت الدرج" مبنيّة من الإسمنت المسلح.
اشتد القصف وباتت الأحزمة النارية تحيط بالبرج، فكان لا بد للعائلة أن تغادر فوراً إلى رفح، بينما بقي توفيق وحيداً مع المقتنيات التي باتت في عهدة الحارس.
ولم يمرّ وقت طويل حتى تحقق كابوسه، فقد قُصف البرج، وبدأ الحريق يلتهم سطح المبنى حيث كانت شقته، فهبط من منزله مسرعاً، ولجأ مع بقية سكان البرج، المهدد بالتدمير الكامل هذه الأيام، إلى مدرسة أرثوذكسية مجاورة قضوا فيها ليلتهم.
في اليوم التالي، بدأت المرحلة الأصعب من خطة الإنقاذ.. كان الطبيب وليد النحال، صديق توفيق بسيسو، أرسل إليه أحد أقاربه بسيارة للمساعدة، وهنا، بدأت عملية نقل الإرث من مخبئه تحت الدرج إلى السيارة التي انطلقت بعدها من غزة إلى رفح.
بعد لم شمل العائلة في رفح والمكوث هناك لـ75 يوماً، جاء الفرج على شكل تنسيق من وزارة الخارجية الأردنية لإجلائهم إلى المملكة التي يتمتعون بجنسيّتها، لكن التحدي الأخير كان معبر رفح ببيروقراطيته وتعقيداته، فما كان أمام توفيق إلا الدفع بسخاء لضمان التعامل مع مقتنياته بعناية فائقة ووضعها في مكان آمن ومنفصل.
على الجانب المصري، كاد الأمر يتعقد، عندما طلب منه ضابط الجمارك فتح الحقائب.. شرح له توفيق أنها مقتنيات والده الشاعر معين بسيسو، وبمحض الصدفة، وقعت يده على ألبوم صور كان مفتوحاً على صفحة توثق الجنازة العسكرية المهيبة التي أقامتها مصر لوالده، لتشكل الصورة جواز العبور للعائلة.
انطلقت السيارة في رحلتها من رفح المصرية إلى القاهرة.. "كانت الطريق فارغة إلا من الخوف والترقب"، يروي توفيق بسيسو لـ"الأيام"، مضيفاً: طوال الطريق كنت أضع يدي فوق سقف السيارة كي لا تنزلق الحقائب أو تطير، وكنت أحض السائق على إخفاض سرعة السيارة باستمرار.
إنقاذ هذه المقتنيات كان حفاظاً على مشروع فكري وثقافي متكامل، وهو ما يعمل عليه توفيق حالياً، فقد كشف لـ"الأيام"، أن ذلك سيكون عبر مشروع "رسامون عاصروا الشاعر معين بسيسو"، ويهدف إلى استكشاف شخصية والده وإرثه ليس من خلال كلماته، بل بعيون الفنانين العظام الذين عرفوه وعملوا معه.
وتحدث توفيق مطولاً عن تجربة معين بسيسو، الذي كان يشكل محوراً فنياً بحد ذاته، فديوانه الأول "المعركة"، على سبيل المثال، عمل على إعداد رسوماته خمسة من كبار الفنانين، من بينهم: كامل التلمساني وصلاح جاهين وكامل فريد، وهو أمر استثنائي لديوان لا يحتوي إلا بضع قصائد.. هذه العلاقات العميقة هي ما يسعى الابن لإبرازه، فالقصة ليست في اللوحات بحد ذاتها، بل في الفنانين الذين رسموها وعلاقتهم بالشاعر.
ومن بين هذه الكنوز الفنية، تبرز لوحتان تلخّصان مسيرة الشاعر بصرياً، وتشكلان إطاراً فنياً لحياته الحافلة التي بدأت في فلسطين وانطلقت إلى العالمية، حيث رسْمه الأول كان بريشة الفنانة الفلسطينية القديرة تمام الأكحل، والأخير لفنانة روسية تُدعى "ميتو".
اليوم، يتحدث توفيق بسيسو، وهو محاط بجزء من هذا الإرث الذي أنقذه، حيث لا تزال هناك أربع حقائب في مصر تنتظر من يحملها لتكتمل فصول الحكاية.
0 تعليق