سُجّلت عشرات حالات رفض التأشيرات لممثلي دول وكيانات معترف بها أمميا على مدى العقود المنصرمة من قبل الولايات المتحدة، والتي عُهد لها باستضافة مقر الأمم المتحدة في نيويورك عام 1947، مما منحها نوعا من التحكم المباشر في وصول ممثلي الدول إلى المنصة الدبلوماسية الأهم عالميا.
وكان آخر حالات رفض التأشيرة وأوسعها في أغسطس/آب 2025، حين أعلنت واشنطن إلغاء تأشيرات الوفد الفلسطيني قبيل الدورة الجديدة للجمعية العامة.
ورغم وضوح النصوص الملزمة في اتفاقية مقر الأمم المتحدة والتي تُؤكد حق الدول في حرية دخول الأراضي الأميركية لأغراض أممية، فإن الولايات المتحدة تستند إلى ثغرات قانونية في تشريعاتها الفدرالية لحجب تأشيرات الدخول، متذرّعة بـ"مخاوف أمن قومي" واتهامات بـ"التحريض" و"دعم الإرهاب" و"انتهاك حقوق الإنسان".
ويثير هذا المسلك الأميركي تساؤلات مستحقة عن الدوافع في ظل انتقادات دولية تتهم واشنطن بالانتقائية في تطبيق المعايير المتبناة رسميا لديها.
فما الخلفيات التاريخية والقانونية لسياسة الحرمان من التأشيرات؟ وماذا يمثل القادة الذين يحرمون فعليا من حضور أكبر المنابر الأممية؟ وكيف تتداخل السياسة بالقانون في هذا المشهد الذي يمثل اختبارا للبنى الدولية كفواعل مستقلة أو مُستغلة؟

الجذور التاريخية ودور الدولة المضيفة
برزت أمثلة عديدة عبر تاريخ الأمم المتحدة تُظهر توظيف الولايات المتحدة ميزة استضافة المقر لديها كنقطة نفوذ جيوسياسي.
ولم تتسم ردود الفعل بغض الطرف دائما، فقد قاطع الاتحاد السوفياتي في منتصف القرن الماضي -على سبيل المثال- جلسات مجلس الأمن لفترة وجيزة احتجاجا على قضية تمثيل الصين، حيث منح التمثيل للصين في الأمم المتحدة لجمهورية الصين بقيادة "كاي شيك" في تايوان، على حساب جمهورية الصين الشعبية بقيادة "ماو تسي تونغ".
إعلان
ولا تتوقف الولايات المتحدة في إجراءات التحكم عند منع دخول أراضيها، بل تفرض إجراءات أخرى تحد من تحركات بعض القادة حتى وإن سمح لهم بالمكوث. فقد فرضت واشنطن في ستينيات القرن الماضي قيودا على تحركات فيدل كاسترو ضمن أميال محدودة.
استمرت واشنطن خلال الحرب الباردة في تبني هذا النهج ضد خصومها الأيديولوجيين، فقد واجه ممثلو الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية وحركات التحرر الوطني من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية قيودا متكررة.
أما في الثمانينيات، فقد سلكت الدول سلوكا عُدّ احتجاجا غير مسبوق عندما رفضت الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس رونالد ريغان منح التأشيرة لياسر عرفات عام 1988، حيث حزم دبلوماسيو الدول وقادتها حقائبهم لعقد اجتماع الجمعية العامة في جلستها التاريخية في جنيف كحل بديل.
ومع أن هذا عُدّ سابقة كان من المفترض أن تحد من سلوك الولايات المتحدة، فقد تكرّرت سيناريوهات منع للمشاركة لاحقا ضد قيادات دولية مختلفة.
من الناحية النظرية، يحاول المجتمع الدولي الحفاظ على استقلالية الأمم المتحدة عن القيود القانونية أو الأمنيّة للدول المضيفة. لكن في الواقع، يعتمد النظام الأممي بشكل كبير على توازنات القوى الكبرى في مجلس الأمن، وتحديدا حين تتقاطع المصالح الأميركية مع اعتبارات سياسية ومصلحية.
وفي الوقت الذي تتعالى فيه تساؤلات حول مدى توافق هذه القيود مع نصوص الاتفاقيات ومعايير القانون الدولي، تبدو واشنطن عازمة على الاستمرار في سياسة "الاصطفاء" التي تبررها تشريعات محلية وأجندة سياسية مختلفة.
القادة المحرومون
يمثل القادة المحرومون من التأشيرات الأميركية طيفا واسعا من التوجهات السياسية والأيديولوجية والذين يجمعهم قواسم مشتركة متمثلة في معارضتهم السياسات الأميركية وتحديهم للهيمنة الغربية.
واجهت إيران بشكل خاص حملة ممنهجة من الرفض والتقييد شملت قياداتها على مختلف المستويات. فقد حُرم وزير الخارجية محمد جواد ظريف في يناير/كانون الثاني 2020 من دخول الولايات المتحدة.
وقد سبق ظريف ولحقه عشرات المسؤولين الإيرانيين الذين واجهوا المصير ذاته. وكان السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة مجيد تخت روانجي قد اشتكى مرارا من حرمان وفود بلاده بشكل روتيني ومنتظم من التأشيرات.
لا يقتصر الأمر على إيران وحدها، فقد واجه الدبلوماسيون الكوبيون قيودا مستمرة منذ الثورة الكوبية عام 1959 على خلفية استمرار العداء الأيديولوجي الذي يعود إلى الحرب الباردة.
وتمثل فنزويلا تحت حكم نيكولاس مادورو مثالا آخر، حيث واجه المسؤولون الفنزويليون قيودا متزايدة منذ الأزمة السياسية الفنزويلية عام 2019، عندما اعترفت واشنطن بخوان غوايدو رئيسا شرعيا بدلا من مادورو، حيث أخضعت واشنطن أكثر من 140 مسؤولا فنزويليا لعقوبات أميركية، وحُدد ما يقارب الألفين فنزويلي كأهداف محتملة لقيود التأشيرة.
وأخيرا، أعتبر حرمان الوفد الفلسطيني من المشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة الحالة الأكثر شمولية وإثارة للجدل. ففي أغسطس/آب 2025، لم تكتف واشنطن برفض تأشيرة الرئيس محمود عباس، بل ألغت تأشيرات 80 مسؤولا فلسطينيا، كخطوة استباقية للتأثير على توجهات الدول وثنيها عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
اتفاقية المقر وثغرة التشريعات الأميركية
ترتكز حجج الرفض الأميركي أساسا على خليط من القوانين والتعديلات الفدرالية، أبرزها قانون الهجرة والجنسية "آي إن إيه" (INA) بتعديلاته المتعاقبة، وقوانين العقوبات المختلفة مثل قانون قيصر ضد سوريا، وقانون الامتثال لالتزامات منظمة التحرير الفلسطينية "بلوكا" (PLOCCA) الصادر عام 1989، وقانون التزامات السلام في الشرق الأوسط "ميبكا" (MEPCA) لعام 2002.
إعلان
تمنح هذه المنظومة التشريعية الإدارات الأميركية مساحات واسعة لتصنيف الأفراد والمنظمات تحت بند "نشاط إرهابي" أو دعم الإرهاب.
ورغم أن هذه القوانين تأتي في سياق محاولة واشنطن فرض سياساتها على الدول المناهضة أو دفعها لتغيير سلوكها وتبني سياسات أكثر انسجاما -سواء كان ذلك ضمن جملة السياسات الضاغطة للتخلي عن البرنامج النووي الإيراني على سبيل المثال، أو دفع منظمة التحرير لنبذ العنف- فإنها أثارت عددا من الأسئلة.
فكيف يمكن التوفيق بين هذه النصوص من جهة، واتفاقية مقر الأمم المتحدة لعام 1947 من جهة أخرى، والتي تفرض التزاما مطلقا على الدولة المضيفة بمنح تسهيلات الوصول للممثلين الرسميين؟ فالمادة الحادية عشرة من الاتفاقية تشترط ألا تفرض السلطات المُضيفة أي قيود على عبور وحضور الوفود المعتمدة. كما تؤكد المادة الثالثة عشرة ضرورة منح التأشيرات المطلوبة.
من زاوية القانون الدولي، يؤكد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 1988 أن الدولة المضيفة "ملزمة" أساسا بضمان وصول الوفود والمسؤولين، وأنه في حال تعارض القانون المحلي مع التزامات المعاهدات الدولية، فإن أولوية القانون الدولي تسري.
لكن الولايات المتحدة أدرجت في قانونها العام (80-357) حقها في "حماية أمنها ومصالحها القومية"، مما يشكل فعليا ثغرة قانونية تتيح تبرير حالات الرفض أو تقييد الحركة.
ازدواجية المعايير
تثير قرارات رفض التأشيرات لمسؤولين من دول -سواء فلسطينيين أو إيرانيين أو كوبيين- مقارنة بقادة آخرين جدلا واسعا بشأن الانتقائية في تطبيق المعايير الأميركية. فدول عديدة يُتهم قادتها بجرائم أو انتهاكات واسعة النطاق وصل بعضها حد إصدار مذكرات اعتقال أممية، ومع ذلك لا تمارس في حقهم قيود مماثلة.
صدرت، على سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت كمدانين بجرائم حرب في قطاع غزة، لكن واشنطن لم تواجههما بالحظر.
وعلى النقيض، بادرت الولايات المتحدة إلى حماية المسؤولين الإسرائيليين من القضاء الدولي، حتى إنها فرضت عقوبات على مدّعين دوليين سعوا إلى ملاحقة هؤلاء المسؤولين. في المقابل، مُنع عمر البشير عام 2013 من دخول الولايات المتحدة على خلفية الاتهامات ذاتها.
هذا التفاوت يطرح تساؤلا هاما وملحا حول تعزز استخدام القانون الدولي أداة في خدمة القوى الكبرى ضد الخصوم فقط، وكيف تستقيم فكرة "مواجهة الإرهاب" أو "حماية حقوق الإنسان" إذا كانت القرارات تُصدَر وفق اعتبارات التحالفات الجيوسياسية بدلا من معايير قانونية ثابتة؟
تساند دول كروسيا والصين حقوق الوفود بموجب المواثيق الدولية، لكنّ مجلس الأمن ذاته منقسم، ولا تبدو التوازنات الحالية مائلة لغير صالح التفسيرات الأميركية لاتفاقية المقر.
الداخل الأميركي والاعتبارات الداخلية
لا تقتصر الدوافع وراء رفض التأشيرات الفلسطينية على المخاوف الأمنية كما يبرر القادة الأميركيون فحسب، بل تتداخل معها حزمة معقدة من الاعتبارات السياسية المحلية في الولايات المتحدة. فالرئيس دونالد ترامب بَنى تحالفا متينا مع القاعدة المسيحية الإنجيلية، التي يهمها دعم إسرائيل في أي خلاف يتعلق بالأراضي الفلسطينية لأسباب دينية وسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، سعيه لإرضاء النسبة المؤثرة من أصوات الناخبين الإنجيليين الأميركيين التي تؤيد سياسة تشديد القبضة على أي مُمارسات تُعد معادية لإسرائيل.
وتلعب مجموعات الضغط الإسرائيلية دورا محوريا في الكونغرس، حيث تشجّع على سنّ تشريعات تقوض بنية النشاط الدبلوماسي الفلسطيني في المنابر الأممية. كما يتم تصوير أي خطوة فلسطينية في سبيل انتزاع اعتراف دولي أو التوجه للمحاكم الدولية على أنها "حرب قانونية" تستوجب الرد الفوري عبر الضغط والعقوبات.
إعلان
ومع اقتراب استحقاقات انتخابية، عادةً يضطر صناع القرار في البيت الأبيض ووزارة الخارجية لإظهار مزيد من التشدد في الملف الفلسطيني لضمان دعم هذه المجموعات.

أصوات معارضة
وبرزت أصوات أميركية، مثل المسؤول السابق في مجال حقوق الإنسان بالأمم المتحدة كريغ موكيبر، تحذر من خطورة تسييس اتفاقية مقر الأمم المتحدة وإضعاف مصداقية واشنطن دوليا إذا ما واصلت عرقلة حضور وفود معترف بها أمميا.
لكن تيارا آخر يعتبر أن السلطة الفلسطينية، وبخاصة بعد 2015، تقترب من الخط "الأحمر" عبر مبادرات مثل الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وترى ضرورة معاقبة هذه التحركات كتحذير لدول أخرى قد تستخدم القضاء الدولي ضد حلفاء الولايات المتحدة.
في المحصلة، يعكس رفض التأشيرات لقادة فلسطينيين لحضور اجتماعات الجمعية العامة حالة من التوتر بين مقتضيات الشرعية الدولية ومتطلبات الدولة المضيفة المصلحية والأمنية.
لا يقتصر أثر استمرار هذا الوضع على القضية الفلسطينية وحدها، فهو يعكس اتجاها متناميا نحو "تسييس القانون الدولي"، مما قد يضع مصداقية النظام الأممي برمّته على المحكّ.

رفض التأشيرات الفلسطينية
بالنسبة للقيادات الفلسطينية فقد بدأت تواجه تحدي التأشيرات مبكرا منذ الفترة التي مُنحت فيها منظمة التحرير عام 1974 صفة مراقب في الأمم المتحدة، فرغم الاعتراف الأممي الجديد آنذاك، فإن ممثّلي المنظمة واجهوا قيودا أميركية.
أما في الثمانينيات، فقد رفضت الولايات المتحدة تحت إدارة ريغان منح التأشيرة لياسر عرفات عام 1988، وتكرّرت سيناريوهات منع المشاركة لاحقا ضد قيادات دولية مختلفة.
ولم يشارك أي من القادة الرسميين الفلسطينيين المحسوبين على حركة حماس كرئيس الحكومة الفلسطينية الراحل إسماعيل هنية في أي من القمم الدولية هناك. ولا يعود ذلك إلى إجراءات مثل رفض التأشيرة، بل يعود إلى تجريم الحركة ووصفها بالإرهاب، لكن النتيجة واحدة.
تراكمت حالات الرفض باضطراد بالتوازي مع تمسك الفلسطينيين بإستراتيجيات دولية، أبرزها اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية للمطالبة بملاحقة مسؤولين إسرائيليين متهمين بجرائم حرب.
ومع تصاعد الجهود الفلسطينية في الحقل الدبلوماسي والقانوني منذ 2017، واجهت السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير قيودًا أكبر، تبعها ما حصل في أغسطس/آب 2025 من "أكبر حملة رفض تأشيرات في التاريخ".
رسمت هذه الخطوة تصعيدا صريحا غير مسبوق، إذ إنها لم تقتصر على منع شخصيات محددة تتهمها واشنطن بالإرهاب، بل شملت فريقا واسعا يمثل البنية السياسية والإدارية العليا للسلطة الفلسطينية. ولم تكتفِ السلطات الأميركية بهذا الإجراء، بل عممت قرارا داخليا على سفاراتها يقضي برفض أي تأشيرة لأي مواطن يحمل جواز سفر فلسطيني.
0 تعليق