عاجل

أفريقيا التي شوهها الإعلام - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تعاني القارة الأفريقية من سيادة الصور النمطية السلبية عنها في الإعلام العالمي لعقود رسخت القارة كمرتع للفقر والفساد والحروب ولكل ما يردع المستثمرين عن التفكير في الإقدام على اقتحام أسواقها التجارية.

ولم تكن هذه الصور النمطية مسيئة لأفريقيا والأفارقة عبر تكوين انطباعات مسبقة مضللة عنهما لدى المتلقين فقط، بل كان لهذا النوع من الإدراك انعكاساته في العديد من المجالات الحيوية يأتي الاقتصاد في مقدمتها، تاركا بصمته في حيوات الملايين ومستقبلهم.

The Economist May 13, 2000
غلاف مجلة "الإيكونوميست" المرموقة الصادر في 13 مايو/أيار 2000 (الجزيرة)

كيف تشكل وسائل الإعلام صورة سلبية عن أفريقيا؟

لطالما كانت القارة الأفريقية هدفاً للتصوير السلبي لوسائل الإعلام الغربية، ويعتبر العديد من الباحثين غلاف مجلة "الإيكونوميست" المرموقة الصادر في 13 مايو/أيار 2000 كأحد الأمثلة المكثفة والمؤثرة لهذه النظرة الازدرائية، فعلى خلفية سوداء قاتمة تبرز خريطة أفريقيا يتوسطها رجل يجهد نفسه لحمل سلاح على كتفه، ومكتوب فوق الخريطة بخط أصفر مثير للانتباه "القارة اليائسة"!

وتشير متخصصة الاتصالات جولييت لانسي في مقال لها على "مركز ويلسون" الأميركي إلى أن هذه الصورة، التي وصلت إلى ما يقارب مليون قارئ من قراء "الإيكونوميست" حول العالم، لخصت قارةً تضمّ ما يقارب ملياراً ونصف المليار نسمة، يعيشون في 54 دولة متنوعةً ومتعددة الثقافات والأعراق، في 3 كلمات مُدانة وصورة للحرب والصراع.

ورغم مرور عقدين من الزمان على صدور هذا الغلاف، فإن العديد من الدراسات الحديثة تشير إلى سيادة الصورة النمطية المضللة عن القارة في وسائل الإعلام الأميركية ذات التأثير النافذ على لا عقول الأميركيين وحدهم بل على المستوى العالمي.

وفي هذا السياق يوضح مقال تحليلي نشره "مركز بروكينغز" عام 2017 أنه خلال قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التاريخية في واشنطن (2014) التي أسفرت عن مليارات الدولارات من التعهدات الاستثمارية ركزت وسائل الإعلام بدلاً من ذلك على تفشي فيروس "إيبولا" في غرب أفريقيا، حيث ذُكرت كلمة "إيبولا" أكثر من كلمتي "الولايات المتحدة" و"القمة" مجتمعتين.

KAMPALA, UGANDA - FEBRUARY 3: Health workers prepare doses of a trial vaccine at Mulago Referral Hospital for medical staff and contacts of a man who died after testing positive for the Sudan strain of the Ebola virus, on February 3, 2025 in Kampala, Uganda. The Uganda Ministry of Health declared an outbreak of Sudan virus disease (SVD) on January 30, following the death of the 32-year-old male nurse who worked at the Mulago Referral Hospital, marking the first recorded fatality from Ebola since the last outbreak in Uganda, between 2022-2023. Sudan virus is a deadly strain of Ebola, and according to the World Health Organization, currently has no approved treatments or vaccines. (Photo by Hajarah Nalwadda/Getty Images)
الإعلام صور أفريقيا كبقعة موبوءة بالأمراض ووجهة غير آمنة (غيتي إيميجز)

قارة الأزمات

بجانب ما سبق تشير مقالة لانسي سالفة الذكر إلى كشف أحد تحليلات المحتوى أن "أخبار الأزمات" كانت التوصيف الأكثر شيوعاً للأخبار المتعلقة بأفريقيا، وأنه وفقاً لمجلة كولومبيا للصحافة بينما تضمنت الصحف والمجلات العشر الأكثر مشاهدة في أميركا 245 مقالاً تتناول الفقر في أفريقيا، لم تذكر سوى 5 منها نمو الناتج المحلي الإجمالي.

إعلان

وفي لفتة بارعة، يشير الباحث التنزاني جافاس بونسيان في دراسة له إلى دور وسائل الإعلام الأفريقية في تعزيز التصورات السلبية عن القارة، فبينما يغطي عدد قليل جداً من وسائل الإعلام الأفريقية القارة بشكل إيجابي، يقع الكثير منها ضحية للتقارير المتحيزة والمعايير الغربية في تصويرها للقارة السمراء.

ولا تتمثل خطورة هذا التدفق المستمر من الصور والتغطيات السلبية في انتشار واسع النطاق لمعلومات خاطئة ومضللة فقط، بل في تكريس سردية تعيد تشكيل الواقع في أذهان المتلقين، وفي عالم اليوم الذي تصوغه السرديات الإعلامية لا تتحدد النظرة إلى أفريقيا بظروفها الموضوعية، وهكذا يمكن للإدراك المسبق أن يتجاوز ببساطة الأداء والسجل الحافل بالنجاحات الاقتصادية في الكثير من دول القارة.

تصميم حاص- خريطة القارة الأفريقية
القارة الأفريقية (الجزيرة)

أهم الصور النمطية

يشير تحليل منشور على منصة "أبيريان" وهي مؤسسة تعنى ببناء الجسور بين الثقافات، إلى ما يسميه بمجموعة من "الأساطير" المرتبطة بشيوع صور نمطية سلبية عن أفريقيا، من أبرزها الاعتقاد الشائع أن أفريقيا دولة واحدة وليست قارة تضم 54 دولة لكل منها ثقافاتها وسياقها السياسي والاجتماعي الخاص.

هذه الأسطورة مؤذية لأنها تعزز رؤية أحادية تضعف التقييمات الدقيقة للمخاطر وتحجب التباين الاقتصادي والثقافي للقارة، وحين ينظر المستثمر إلى أفريقيا ككيان واحد فإن عدم الاستقرار السياسي أو التراجع الاقتصادي في بلد واحد يمكن تعميمه على القارة بأكملها.

ويحول ذلك دون تحديد فرص النمو المستقرة والعالية في البلدان الأخرى غير المتأثرة، مما يؤدي إلى ضياع الفرص وسوء تخصيص رأس المال.

بجانب ما سبق ثمة اعتقاد شائع بأن أفريقيا دائماً حارة أو أنها عبارة عن صحراء عملاقة، على الرغم من وجود مناخات متنوعة تشمل الثلوج والغابات المطيرة والجبال والسافانا.

كما أن فكرة أن أفريقيا متخلفة عن بقية العالم وتفتقر إلى التكنولوجيا المبتكرة هي مفهوم خاطئ، فالواقع يشهد أن الأفارقة مبتكرون ولديهم موارد، مع أمثلة من قبيل الروبوتات المنظمة لحركة المرور في كينشاسا بالكونغو الديمقراطية وتكنولوجيا الطائرات بدون طيار في نيجيريا.

تتضمن المفاهيم الخاطئة الشائعة أيضا أن الجميع في أفريقيا يعيشون في فقر مدقع ولا توجد صناعات أو فرص متنامية، وفي حين أنه من الصحيح أن أكثر من 218 مليون شخص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يعيشون في فقر مدقع، فإن الكثيرين يخفقون في فهم أن ليست كل دولة أفريقية فقيرة، فدول كنيجيريا وجنوب أفريقيا تعتبر من الاقتصادات المتوسطة عالميا.

ويعد كون أفريقيا بقعة موبوءة بالأمراض ووجهة غير آمنة للزيارة أو السياحة من أكثر التصورات المضللة شيوعاً، حيث تغض النظر عن العديد من البلدان التي تقدم شواطئ نقية ومناظر طبيعية خلابة وفرصاً للمغامرة، مثل المغرب وجنوب أفريقيا والسنغال وغانا وتنزانيا.

ماساي مارا كينيا
الإعلام أغفل مواطن الجمال التي تتمتع بها القارة السمراء (الجزيرة)

عواقب اقتصادية

في مقال لها تشير نائبة الأمين التنفيذي وكبيرة الاقتصاديين في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة حنان مرسي إلى أن الأنظمة والروايات البالية حول الاقتصادات الأفريقية ليست مجرد تشوهات بل إن لها "تكاليف اقتصادية حقيقية"، وأن التصوّر الضيق الذي يعرّف أفريقيا من خلال مخاطرها الحقيقية والمتخيلة ليس مضللاً فحسب "بل هو مدمر أيضاً".

إعلان

وتمضي مرسي مفسرة ذلك بأن هذا التصور يُعيق الاستثمار والنمو، ويُرسخ الفقر، مخلفاً نتائج وخيمة من ملايين الأطفال المحرومين من التعليم، ومن أسر بلا كهرباء، ومجتمعات مُعرضة للجفاف والفيضانات والمجاعة.

وتفصل دراسة مطولة صادرة في أكتوبر/تشرين الأول 2024 عن "أفريكا نو فلتر" -وهي منظمة غير ربحية تعمل على تحدي السرديات الضارة عن أفريقيا- كيفية تضخيم التقارير الإعلامية المتحيزة المخاطر المتصورة لأفريقيا رافعةً تكاليف الاقتراض.

وبناء على ذلك التصور، تدفع الدول الأفريقية باستمرار "علاوة مخاطر" في عوائد سنداتها، تتجاوز بكثير تلك التي تدفعها الدول غير الأفريقية ذات الظروف السياسية والاقتصادية المماثلة.

وفي هذا السياق تشير الدراسة إلى أن متوسط ​​عائد السندات بلغ في كينيا في فترة الانتخابات 16.98%، مقارنة بمتوسط ​​عائد السندات في ماليزيا الذي كان عند 4.5%، على الرغم من تصنيف كلا البلدين ضمن فئة المخاطر المتوسطة وفقا للمؤشرات العالمية.

ويرتبط هذا التباين بشكل مباشر بصورة وسائل الإعلام عنهما، إذ أظهرت 88% من التغطية الإعلامية الدولية لكينيا خلال فترة الانتخابات رؤى سلبية، مقارنةً بـ 48% فقط لماليزيا.

وتشير الدراسة إلى زاوية أخرى تتعلق بمواجهة الدول الأفريقية تكاليف اقتراض مرتفعة بشكل غير متناسب مع الدول النظيرة، حيث يبلغ متوسط عائد السندات في مصر 15%، في حين أنه يقدر بـ2.5% في تايلاند، على الرغم من المخاطر السياسية المتماثلة، مستنتجة أن "علاوة المخاطر" والتفاوت في عوائد السندات للدول المتماثلة يشيران إلى أن النظام المالي نفسه، بما في ذلك وكالات التصنيف الائتماني، يتأثر بهذه الصور النمطية ويديمها.

وتكمن خطورة هذا التصور في أنه حين تتأثر وكالات التصنيف الائتماني -التي تقيم المخاطر للمستثمرين- بالسرديات السائدة، فإن التصنيفات ستعكس هذا التحيز، مما يؤدي إلى زيادة المخاطر المتصورة وبالتالي ارتفاع تكاليف الاقتراض.

وفي الخلاصة فإن تكلفة التحيز الإعلامي في تغطية نفقات الاقتراض في أفريقيا باهظة، حيث تُضخّم مدفوعات فوائد الديون السيادية بما يصل إلى 4.2 مليار دولار سنويا، وينبع هذا الرقم من تضخم أقساط المخاطر التي يطلبها المستثمرون، والتي تُغذيها المشاعر السلبية المستمرة المحيطة بأفريقيا في وسائل الإعلام العالمية.

شارع برود المركز تجاري في مدينة لاغوس في نيجيريا (رويترز)

الاستثمار المردوع بالوهم

تردع الصور النمطية المستمرة المستثمرين المحتملين من خلال تصوير أفريقيا كبيئة عالية المخاطر، وتشير "سي إن بي سي أفريكا" إلى أنه رغم تزايد اهتمام المستثمرين برأس المال الخاص الأفريقي، فإن التصورات المسبقة لا تزال تلعب دوراً غير متناسب في تحديد أماكن وكيفية تخصيص رأس المال.

ويواجه العديد من مديري الصناديق الأفارقة تصورات راسخة تُصوّرهم على أنهم أكثر خطورة أو أقل تطوراً من نظرائهم الأجانب، بغض النظر عن المعلومات الموضوعية المختلفة المرتبطة بالأداء أو النجاح الاقتصاديين.

وفي هذا السياق تسبب انقلاب النيجر عام 2023 في ارتفاع عائدات السندات الكينية بمقدار 40 نقطة أساس، على الرغم من التباعد الجغرافي وانعدام وجود صلات اقتصادية مباشرة، ما يوضح بقوة كيف يقود التصور الأحادي لأفريقيا إلى ردود فعل غير منطقية في السوق تتجاوز التقييم الموضوعي للمخاطر، مؤدية إلى هروب رأس المال أو زيادة التكاليف حتى بالنسبة للاقتصادات المستقرة.

من جانبها تلقي دراسة "أفريكان نو فيلتر" المذكورة سابقا الضوء على التأثير العميق للتصورات الإعلامية على قطاعات حساسة كالسياحة والمساعدات، حيث تشكل الخطابات الإعلامية عوامل رئيسية في تشكيل تصورات السياح والمانحين، وعندما تكون هذه الخطابات سلبية للغاية، فإنها تُثني الزوار والداعمين المحتملين، مما يُفاقم التحديات الاقتصادية التي تواجهها الدول الأفريقية.

وهكذا يعيق انتشار الصور النمطية السلبية والمضللة الاستثمار ويجذر الفقر ويضعف النمو، مؤدياً إلى عواقب تراجيدية من قبيل ملايين الأطفال المحرومين من التعليم والمجتمعات المعرضة لتأثيرات تغير المناخ.

إعلان

في حين تشكل الفجوة الكبيرة التي قدرها "البنك الدولي" بين 12 مليون شاب سيدخلون سوق العمل سنوياً في أفريقيا و3 ملايين وظيفة يتم إنشاؤها نموذجياً مثالياً للتحديات التي قد يفاقمها تضاؤل الاستثمار، بكل ما لذلك من تداعيات اجتماعية وسياسية وأمنية.

تقييم البنك الدولي يشير إلى توقعات لارتفاع النمو في أفريقيا (رويترز)

الطريق للخروج من الدائرة الشريرة

مقارنة بالواقع تبدو الصور النمطية عن أفريقيا شديدة السطحية والاختزال، حيث تشهد اقتصادات دول القارة تباينات كبيرة ونمواً ملحوظاً حيث يشير تقييم "للبنك الدولي" إلى توقعات لارتفاع النمو في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من 3.3% عام 2024 إلى 3.5% عام 2025، وأن يتسارع أكثر ليصل إلى 4.3% عامي 2026 و2027، مما يدل على المرونة وسط حالة عدم اليقين التي تسم الاقتصاد العالمي حاليا.

ويتطلب الخروج من أسر هذه الدائرة المغلقة من التضليل الإعلامي حول أفريقيا والتكاليف الاقتصادية الناتجة عنه بناء دول القارة ومنظماتها الجامعة إستراتيجيات إعلامية مضادة تعمل على كشف الواقع بكل تنوعاته وتضخيم النجاحات والإصلاحات الاقتصادية، ودعم المنظمات التي تعمل على خلق سرديات جديدة إيجابية وواقعية حول القارة السمراء ناقلة الاستجابة من حيز الدفاع إلى فضاء التشكيل الاستباقي للإدراك.

كما تلح الحاجة إلى ترسيخ شفافية البيانات وأصول التقييم العادل، إذ يقع على عاتق الحكومات والجهات المتعددة الأطراف ووكالات التصنيف الائتماني ضمان تدفق البيانات الشفافة التي تدعم قرارات الاستثمار.

ويفرض الواقع الحالي ضرورة وجود هيئة عالمية أو قارية للإشراف على التقييمات غير العادلة التي تؤثر على حيوات الملايين وعدم ترك الأمر بيد وكالات التصنيف الائتماني وحدها.

0 تعليق