عاجل

قرارات صغيرة صنعت ثورات كبرى: لحظات غيرت مسار التكنولوجيا - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عالم التكنولوجيا، يبدو أحيانا أن التغيير يحدث فقط نتيجة اكتشاف علمي ضخم أو ثورة تقنية غير مسبوقة. غير أن التاريخ يخبرنا أن قرارات إدارية أو تفاوضية، لحظية أو حتى عابرة، يمكن أن تُحدث تأثيرا أعظم بكثير مما كان يتوقعه أصحابها. كثير من الشركات خسرت مكانتها العالمية أو فوّتت فرصا ذهبية لأنها لم تُحسن قراءة اللحظة أو الاستجابة لظروف السوق. في هذه المقالة، نستعرض 6 محطات تاريخية مفصلية تبيّن كيف غيرت لحظة تردد أو سوء تقدير شكل الصناعة لعقود قادمة.

واجهة مايكروسوفت ويندوز 11 مواقع التواصل الاجتماعي
قديما توجهت آي بي إم إلى شركة مايكروسوفت، التي لم تكن تملك نظام تشغيل جاهزا، لكنها سارعت لشراء نظام كيو دوس من شركة سياتل كومبيوتر برودكتس (مواقع التواصل الاجتماعي)

آي بي إم وديجيتال ريسيرش: الفرصة التي صنعت مايكروسوفت

في مطلع الثمانينيات، كانت "آي بي إم" (IBM) تستعد لدخول سوق الحواسيب الشخصية عبر مشروع "آي بي إم بي سي". احتاجت الشركة إلى نظام تشغيل متين ليكون النواة البرمجية لجهازها هذا. الوجهة المنطقية آنذاك كانت شركة ديجيتال ريسيرش (Digital Research) بقيادة غاري كيلدال، التي طورت نظام التشغيل سي بي/إم (CP/M)، الأكثر انتشارا بين الحواسيب الصغيرة في ذلك الوقت.

لكن المفاوضات تعثرت. والسبب الرئيسي كان رفض كيلدال وزوجته، التي كانت تدير العقود، التوقيع على اتفاقية عدم الإفصاح التي قدمتها آي بي إم، باعتبار أنها صارمة. ويُقال إن كيلدال كان في رحلة طيران وقت الاجتماع، ما أعطى انطباعا سلبيا عن جدية الشركة، كما لم تُبدِ ديجيتال ريسيرش مرونة في شروط الترخيص والتسعير.

بسبب هذا التعثر، توجهت آي بي إم إلى شركة مايكروسوفت، التي لم تكن تملك نظام تشغيل جاهزا، لكنها سارعت لشراء نظام كيو دوس (QDOS) من شركة سياتل كومبيوتر برودكتس (SCP)، وعدّلته ليصبح إم إس-دوس (MS-DOS). هذا القرار البسيط المتمثل في اختيار بديل في لحظة تفاوض، كان الشرارة التي جعلت مايكروسوفت تتحول من شركة ناشئة صغيرة إلى العملاق الذي سيطر على البرمجيات لعقود. أما ديجيتال ريسيرش، فبقيت على هامش التاريخ.

زيروكس: ابتكار بلا استثمار

في السبعينيات، كان مختبر زيروكس بارك (Xerox PARC) في كاليفورنيا أشبه بمختبر للأحلام. هناك وُلدت أول واجهة رسومية للحاسوب، مع شاشات النوافذ والفأرة، إضافة إلى الطابعات الليزرية والشبكات المحلية. كان حاسوب زيروكس ألتو (Alto) بمثابة استعراض لمستقبل الحوسبة.

إعلان

لكن زيروكس لم تدرك القيمة التجارية لهذه الابتكارات، وظلت تركز على أعمالها الأساسية في آلات النسخ والطباعة، واعتبرت الحاسوب الشخصي مشروعا جانبيا. عندما زار ستيف جوبز المختبر، انبهر بما شاهده، فنقل هذه الأفكار عبر شركة آبل إلى جهاز ليزا (LIZA) عام 1983 ثم ماكنتوش (Macintosh) عام 1984. لاحقا، طوّرت مايكروسوفت نظام التشغيل ويندوز استنادا إلى المبادئ نفسها.

في هذه القصة، لم يكن الفشل ناتجا عن غياب الابتكار، بل عن غياب الرؤية الاستثمارية. زيروكس امتلكت مفتاح المستقبل لكنها لم تعرف كيف تُحوله إلى سوق. النتيجة: الشركات التي اقتبست الأفكار (آبل ومايكروسوفت) أصبحت قادة السوق، بينما غابت زيروكس عن سباق الحواسيب الشخصية.

“نوكيا” تخطط لإطلاق هاتف جديد بشاشة من قياس 6 بوصة
في أوائل الألفية، كانت نوكيا أكبر مصنع للهواتف المحمولة في العالم (البوابة العربية للأخبار التقنية)

نوكيا والهواتف الذكية: الغرور الذي قاد إلى السقوط

في أوائل الألفية، كانت نوكيا (Nokia) أكبر مصنّع للهواتف المحمولة في العالم، وتمتلك نظام التشغيل سيمبيان (Symbian)، لكن مع النجاح جاء الغرور: اعتقد قادة نوكيا أن المستهلكين يريدون هواتف عملية ببطاريات قوية، وليس "ألعابا إلكترونية" بشاشات لمس.

في عام 2007، أطلقت شركة آبل هاتف آيفون (iPhone)، الذي لم يكن مجرد هاتف، بل منصة رقمية متكاملة بمتجر للتطبيقات. تلا ذلك إطلاق غوغل لنظام أندرويد (Android) المفتوح المصدر، ما سهل لشركات عديدة إنتاج هواتف ذكية متطورة.

حاولت نوكيا اللحاق بالركب، لكنها كانت متأخرة جدا ومترددة في التخلي عن نظامها التشغيلي سيمبيان، ما أدى إلى تراجع حصتها السوقية بسرعة هائلة، لصالح المنافسين. النتيجة: من قمة السوق إلى الانهيار خلال أقل من عقد. تظهر هذه القصة أن تجاهل إشارات التغيير، حتى عندما تكون واضحة، قد يكون قاتلا.

An employee takes a photo on a new Sony Xperia 10 Plus in this posed photograph at a pre-launch event at the Sony offices in London, Britain February 14, 2019. Picture taken February 14, 2019. REUTERS/Simon Dawson
في منتصف العقد الأول من الألفية، انقسمت الصناعة حول معيار الفيديو عالي الدقة (رويترز)

قرص سوني ضد قرص توشيبا: معركة التحالفات

في منتصف العقد الأول من الألفية، انقسمت الصناعة حول معيار الفيديو عالي الدقة. دعمت شركة سوني (Sony) قرص بلو-راي (Blu-ray)، بينما قادت شركة توشيبا (Toshiba) قرص إتش دي-دي في دي (HD-DVD). من الناحية التقنية، كان قرص توشيبا أبسط وأرخص تصنيعا، لكن قرص سوني تميز بسعة تخزينية أعلى.

المعركة حُسمت ليس بالتقنية، بل بالتحالفات. عندما قررت أستوديوهات كبرى مثل وارنر بروس (Warner Bros) دعم قرص بلو-راي حصريا، بدأت الكفة تميل بحدة لصالح سوني. بحلول 2008، أعلنت توشيبا انسحابها، ليصبح قرص بلو-راي المعيار العالمي. هذه القصة تبين كيف أن قرارا إستراتيجيا من لاعب أساسي في السوق (شركة أفلام في هذه القصة)، وليس ابتكارا تقنيًا بحتا، غيّر مستقبل صناعة بأكملها.

The Yahoo logo is pictured on a computer monitor in Taipei, Taiwan, 23 September 2016. According to news reports on 23 September, around 500 million Yahoo account users information had been stolen or hacked on its network in 2014.
في عام 1998، عرض مؤسسا غوغل، لاري بيدج وسيرجي برين، بيع محرك بحثهما الناشئ على ياهو مقابل مليون دولار فقط، لكن ياهو لم تر في محركات البحث مشروعا مربحا (وكالة الأنباء الأوروبية)

ياهو وغوغل: الصفقة التي ضاعت

في عام 1998، عرض مؤسسا غوغل، لاري بيدج وسيرجي برين، بيع محرك بحثهما الناشئ على ياهو مقابل مليون دولار فقط. لكن ياهو لم تر في محركات البحث مشروعا مربحا، وفضلت التركيز على البريد الإلكتروني والأخبار وخدمات بوابتها الإلكترونية الأخرى.

إعلان

بعد سنوات قليلة، أصبحت غوغل المحرك الأكثر استخداما في العالم، وابتكرت نموذج الإعلانات عبر البحث، الذي حقق مئات المليارات. بينما ظلت ياهو تراوح مكانها، وفقدت تدريجيا موقعها الريادي، حتى استحوذت عليها شركة فيريزون (Verizon) عام 2017 بقيمة زهيدة قدرها 4.6 مليارات دولار مقارنة بمجدها السابق حيث وصلت قيمتها إلى 125 مليار دولار عام 2000. قصة ياهو وغوغل تُظهر أن التقليل من شأن فكرة تبدو صغيرة قد يفتح الباب لظهور عملاق جديد.

كوداك: من الريادة إلى الإفلاس

في عام 1975، طوّر مهندس في شركة كوداك (Kodak) يُدعى ستيفن ساسون (Steven Sasson) أول نموذج بدائي لكاميرا رقمية. كانت ضخمة الحجم، تسجل الصور على شريط كاسيت، لكنها كانت ثورة تقنية حقيقية.

عندما عرض ساسون ابتكاره على إدارة الشركة، كان رد الفعل فاترا. كان السبب أن نموذج عمل كوداك يعتمد على بيع أفلام التصوير والتحميض، لا على الكاميرات وحدها. الكاميرا الرقمية بدت كتهديد مباشر لأرباح الشركة، لذلك قررت الإدارة أن تضعها في الأدراج.

على مدى سنوات، استمرت كوداك في تطوير نسخ داخلية من الكاميرات الرقمية لكنها لم تطرحها بجدية في السوق، فيما مضت شركات مثل سوني وكانون ونيكون قدما على هذا الطريق. ومع انتشار الهواتف المحمولة المزودة بكاميرات، انهار الطلب على الأفلام التقليدية.

في عام 2012، أعلنت كوداك إفلاسها بعد أكثر من 130 عاما من الريادة. وهكذا خسرت الشركة التي اخترعت الكاميرا الرقمية مستقبلها لأنها لم تجرؤ على تغيير نموذج عملها القديم.

خيط مشترك: القرارات أهم من الابتكارات أحيانا

ما يجمع هذه القصص ليس فقط أنها من عالم التكنولوجيا، بل أنها توضح نقطة جوهرية: الابتكار وحده قد لا يكفي، والفرصة وحدها قد لا تكفي. القرارات الإدارية كتوقيع عقد، أو تبني ابتكار جديد، أو شراء شركة ناشئة، أو قراءة سليمة لاتجاه السوق، يمكن أن تغيّر كل شيء.

لو وقّعت ديجيتال ريسيرش مع آي بي إم، ربما لما أصبحت مايكروسوفت عملاق البرمجيات. لو استثمرت زيروكس بجدية في ابتكاراتها، لكانت اليوم في مكان آبل ومايكروسوفت. لو تحركت نوكيا بمرونة أكبر، لكانت تنافس آبل وسامسونغ اليوم. لو فازت توشيبا بتحالفات أفضل، لكانت أقراص بلو-راي مجرد خيار جانبي. لو آمنت ياهو بمحركات البحث، لربما لم تكن غوغل لتصبح الشركة التي نعرفها اليوم. لو آمنت كوداك بابتكارها، لكانت اليوم رائدة الكاميرات الرقمية بدلا من الإفلاس.

التاريخ ليس دائما نتيجة "الاختراعات الكبرى"، بل أحيانا نتيجة سوء تفاوض، أو غرور، أو تردد. هذه القصص تذكّرنا أن تطور التكنولوجيا لا يرتبط فقط بالبرمجيات والعتاد، بل أيضا بالرؤية والقرارات. الشركات التي تستوعب هذا الدرس تستطيع أن تقتنص الفرص بدلا من تفويتها. أما تلك التي تستخف بالإشارات، فإنها غالبا تكتب بنفسها نهاية قصتها.

0 تعليق