كتب محمد الجمل:
واصلت "الأيام" رصد مشاهد جديدة من العدوان المتصاعد على قطاع غزة عامة، ومدينة غزة على وجه التحديد، منها مشهد حول استمرار وجود نحو مليون شخص في مدينة غزة يرفضون النزوح عنها، ومشهد آخر يُسلّط الضوء على انتشار التلوث في المدينة جراء الغارات الإسرائيلية المتواصلة، ومشهد ثالث تحت عنوان: الخضراوات ما بين الاكتفاء للعوز الشديد".
مليون شخص في مدينة غزة
ما زال نحو مليون شخص يتواجدون في مدينة غزة، ويرفضون النزوح عنها باتجاه جنوب القطاع، رغم تكرار بيانات الاحتلال التي تدعوهم إلى سرعة النزوح، وإخلاء المدينة. وجرى خلال الأيام القليلة الماضية رصد ظاهرة نزوح عكسي، من جنوب القطاع باتجاه مدينة غزة.
ووفق مصادر محلية ورسمية، فإن آلاف المواطنين وصلوا من جنوب القطاع ووسطه إلى مدينة غزة للإقامة فيها، متحدين الاحتلال الذي يحاول تفريغ المدينة من سكانها، حيث شوهدت شاحنات محمّلة بالفراش، والحاجيات، تعبر منطقة "تبة النويري"، متجهة شمالاً حيث مدينة غزة.
وأشارت المصادر إلى أن النزوح العكسي انقسم إلى قسمين؛ الأول هم مواطنون ونازحون من سكان جنوب ووسط القطاع، قرروا التوجه للإقامة في مدينة غزة لمساندة سكانها، والجزء الآخر هم نازحون من مدينة غزة، توجهوا إلى جنوب القطاع، ولم يجدوا مكاناً للإقامة فيه، فعادوا أدراجهم باتجاه مدينة غزة من جديد، وهم يُصرون على عدم مغادرتها إطلاقاً، خاصة بعد أن شاهدوا الوضع الكارثي في منطقة المواصي، التي دعاهم الاحتلال للتوجه إليها.
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن أكثر من مليون مواطن، بينهم نحو 350 ألف طفل، ما زالوا ثابتين في مدينة غزة وشمالها، رافضين بشكل قاطع مخطط الاحتلال الرامي إلى تهجيرهم قسراً نحو الجنوب.
وبيّن المكتب الإعلامي أن "الاحتلال يسعى لفرض سياسة النزوح بلا عودة، في جريمة تتعارض مع كافة القوانين والمواثيق الدولية"، مشيراً إلى أن عدد سكان غزة وشمالها يبلغ نحو 1.3 مليون نسمة، بينهم 398 ألفاً في شمال غزة و914 ألفاً في مدينة غزة، حيث اضطر قرابة 300 ألف للنزوح من الأحياء الشرقية إلى وسط وغرب المدينة.
ولفت إلى أن الطواقم الحكومية رصدت ظاهرة النزوح العكسي، "إذ عاد أكثر من 20 ألف مواطن إلى مناطقهم في غزة وشمالها بعد نزوح نحو 68 ألفاً إلى الجنوب، نتيجة انعدام مقومات الحياة هناك".
وأشار إلى أن منطقة المواصي في خان يونس ورفح، التي يزعم الاحتلال أنها آمنة، تعرضت لأكثر من 109 غارات، خلّفت أكثر من 2000 شهيد، وسط غياب المستشفيات والبنية التحتية والخدمات الأساسية.
ووفق المكتب الإعلامي فقد خصص الاحتلال أقل من 12% من مساحة قطاع غزة كمناطق إيواء، في محاولة لفرض تكدّس أكثر من 1.7 مليون إنسان داخلها، بما يمثل جريمة حرب وانتهاكاً للقانون الدولي والإنساني.
سحابة التلوث
تتعرض مدينة غزة لأعنف موجة من الغارات الجوية منذ بداية العدوان قبل نحو عامين، إذ تستهدف غالبية تلك الغارات بنايات، وأبراجاً، وعمارات عالية، بالتزامن مع تفجير "روبوتات" مفخخة، وسط المربعات والأحياء السكنية.
وتنتج عن كل انفجار، سواء أكان بسبب غارة أم "روبوت"، سحابة كثيفة من الدخان المخلوط بغبار المباني، ويتنشر على مساحات واسعة من مدينة غزة، حتى باتت المدينة بأسرها تقبع تحت سحابة من التلوث الشديد، الذي لا يغادرها.
واشتكى مواطنون من سكان مدينة غزة، من ارتفاع نسب التلوث، الذي بات يُشاهد بالعين المجردة، من خلال رؤية ما يشبه سحابة الدخان في الأفق، والشعور بضيق في التنفس، ورائحة غبار معظم الأوقات.
كما اشتكى مواطنون من اشتمام روائح كريهة بعد كل انفجار أو غارة، من بينها رائحة البارود، والغازات الصادرة عن الانفجار، وهي غازات سامة، لها أضرار صحية خطيرة على المواطنين.
وقال مواطنون، إن الغبار الذي يتصاعد من المباني التي يتم قصفها أو تفجيرها داخل مدينة غزة بشكل يومي بات كبيراً، وترك آثاراً صحية بالغة السوء على المواطنين، خاصة القابعين في مناطقها الشمالية والغربية، لا سيما خلال ساعات الليل، حيث تكون الرياح ساكنة، ما يحول دون إزاحة الغبار بعيداً، ويبقى الأخير عالقاً في الأجواء لفترات طويلة، وربما ينزل جزء كبير من الرذاذ السام والملوث على الأرض، وينشر التلوث في التربة والخيام، والمنازل.
وذكر المواطن محمد العطار من سكان مدينة غزة، أن التلوث الذي يحدثه الاحتلال في مدينة غزة متعمد، وربما يكون أحد الوسائل للضغط على المواطنين لدفعهم إلى النزوح باتجاه الجنوب، وهو ما فشل فيه الاحتلال حتى الآن.
وأوضح أن التلوث لا يقف عند حد دخان وغبار المتفجرات، فهناك إشعال النار بالخشب والبلاستيك للطهي، حيث يصدر عنه دخان ذو رائحة كريهة، إضافة إلى عوادم المركبات والدراجات النارية التي تستخدم مخلفات البلاستيك كوقود، والمحصلة أن السكان يعيشون أجواء تلوث غير مسبوقة.
وأشار إلى أن شقيقته تعاني من مشكلات سابقة في الجهاز التنفسي، وقد أصابها التلوث واستنشاق الدخان والغبار بمشكلات صحية، وباتت تعاني من ضيق في التنفس، وسعال مستمر، خاصة إذا ما جرى قصف منزل أو مبنى مجاور، وانتشر الغبار الكثيف في المنطقة.
الخضراوات بين الاكتفاء للعوز الشديد
على مدار السنوات التي سبقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حقق القطاع اكتفاءً ذاتياً من جميع أصناف الخضراوات، بدءاً بالتوابل الخضراء بجميع أنواعها، مروراً بالخيار، والبندورة، والكوسا، والباذنجان، وليس انتهاءً بالبصل والبطاطا والفلفل بجميع أنواعه، وغيرها من الأصناف.
وفي كثير من الأحيان، كان الإنتاج يفيض عن حاجة قطاع غزة، ويتم تصدير كميات من الخضراوات إلى مختلف دول العالم، خاصة البندورة، والبطاطا، والفلفل الحلو، والفراولة، حيث كانت تمتاز خضراوات غزة بالجودة العالية، ومطلوبة في الأسواق العالمية.
لكن منذ بداية العدوان تحول قطاع الزراعة في غزة إلى هدف مباشر للاحتلال، الذي عمل على تدميره، من خلال تجريف الأراضي الزراعية، وتدمير آبار المياه وخطوط الري، وكذلك منع وصول مُدخلات الإنتاج، واحتلال أكثر من 80% من مساحة القطاع، ما جعل الإنتاج الزراعي يتراجع إلى أقل كميات.
وقال الخبير والباحث في الشأن الاقتصادي محمد أبو قمر، إنه في العام 2022 وصلت قيمة الإنتاج الزراعي في غزة إلى 575 مليون دولار، وكان يشكّل 11% من الناتج المحلي، ويؤمّن آلاف فرص العمل، موضحاً أنه وقبل الحرب حقق قطاع غزة اكتفاءً ذاتياً بنسبة 115% من الخضراوات، وكان يصدّر الفائض للخارج.
وبيّن أبو قمر أنه اليوم وبفعل الحرب والتجريف، انهار الإنتاج إلى أقل من 13% فقط، وخسر المزارعون أكثر من 500 مليون دولار حتى الآن، مشيراً إلى أن الاحتلال لا يكتفي بتجريف الأرض، بل يحرقها ويغيّر طبيعتها الكيميائية والبيولوجية، ما يجعلها غير صالحة للزراعة لسنوات طويلة.
وأوضح أن الفجوة الغذائية وصلت إلى أكثر من 85%، والأسعار ارتفعت بشكل جنوني، حتى صارت الخضراوات التي كانت أساس المائدة، سلعة نادرة.
بينما أكد مزارعون أن الزراعة حالياً مقتصرة على مناطق محددة في القطاع، خاصة غرب مدينة خان يونس، وشمال وجنوب مدينة دير البلح، وتكلفة الإنتاج الزراعي مرتفعة للغاية، لا سيما في ظل عدم السماح بإدخال البذور والأسمدة، والأدوية الزراعية، وصعوبات في توفير المياه للري، جراء تعطل المضخات، وندرة الكهرباء في غزة، التي يتم من خلالها تشغيل الآبار والمضخات.
ووفق خبراء الزراعة، فإن التربة في غزة تحتاج إلى خمس سنوات على الأقل للتعافي بعد الحرق، وهو ما يعني ضربة قاسية لقدرة المزارعين على إعادة إحياء أراضيهم والإنتاج مجدداً، حتى في حال توقفت الحرب وانسحب جيش الاحتلال.
0 تعليق