واشنطن - د ب أ: منذ انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تشرين الثاني الماضي، كشف عن تصورات وسياسات اقتصادية تستهدف تحقيق إنجازات طموحة لكنها متناقضة وتنطوي على مخاطر وتعقيدات جسيمة.
وتنطلق سياسات ترامب الاقتصادية ما يعرف باسم "اتفاق مار أيه لاجو" نسبة إلى منتجع الجولف الفاخر "مار أيه لاجو بيتش" المملوك لترامب في ولاية فلوريدا، وهو عبارة عن مجموعة من الأفكار والمفاهيم والخطط التي وضعها المحلل الاقتصادي ستيفن ميران رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض حاليا.
وفي تحليل نشره موقع مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، قالت الخبيرة الاقتصادية الأميركية، ريبيكا باترسون، إن ترامب يريد المحافظة على مكانة الدولار عالميا، وفي نفس الوقت إضعافه لدعم المصدرين الأميركيين. كما يريد خفض الضرائب الذي يؤدي إلى زيادة عجز الميزانية، في حين يريد أيضا خفض العائد على سندات الخزانة الأميركية. ويريد ترامب زيادة الرسوم على الواردات الأميركية، لخفض عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة، وفي نفس الوقت يريد تعزيز مكانة الولايات المتحدة كوجهة جذابة للاستثمارات الأجنبية.
لكن تحقيق هذه الأهداف، من أجل زيادة عدد الوظائف في قطاع التصنيع وجعل الاقتصاد الأميركي أكثر مرونة، سيكون بالغ الصعوبة. لكن الأمر الأكثر تعقيدا والأشد خطورة أيضا، هو المقترحات المتعلقة بتحقيق هذه الأهداف الاقتصادية والتي يتضمنها اتفاق "مار أيه لاجو".
وتقول ريبيكا باترسون، رئيسة مجلس التعليم الاقتصادي في الولايات المتحدة، إنه على عكس اتفاق "بلازا" الذي أقرته 5 دول رئيسية خلال اجتماع في فندق "نيويورك بلازا" عام 1985 لكي تعمل معا من أجل خفض قيمة الدولار في مواجهة العملات الرئيسية في العالم، من غير المحتمل يحظى اتفاق "مار أيه. لاجو" بالتنسيق العابر للحدود المطلوب لتحقيق النجاح.
لذلك ترى باترسون أن مجرد محاولة اتباع سياسة "اتفاق مار أيه لاجو" سيشكل مخاطر جوهرية على الاقتصاد الأميركي والأسواق المالية. وفي مقدمة هذه المخاطر اضطراب سوق سندات الخزانة الأميركية، والتشكيك في استقلالية مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأميركي، مع زيادة الدوافع لدى دول العالم لتقليل الاعتماد على النظام المالي القائم على الدولار الأمريكي والسوق الأمريكية.
ولفهم مخاطر اتفاق "مار أيه لاجو"، من المفيد النظر في الوصفة السياسية التي قدمها ميران في خمس خطوات رئيسية.
الخطوة الأولى هي استخدام ورقة الرسوم الجمركية حيث يوصي اتفاق "مار أيه لاجو" بعرض الرسوم الجمركية قبل بدء تطبيقها ثم زيادة قيمتها تدريجيا، وهو ما يتيح للشركات الأميركية للاستعداد للتعامل معها، وللدول الأخرى الفرصة للتفاوض مع واشنطن. وهذا هو ما يفعله الرئيس ترامب حتى الآن. ففي الوقت الذي يلمح فيه ترامب وفريقه إلى موجة الرسوم الجمركية التالية المتوقعة في 2 نيسان وهو ما يطلق عليه الرئيس "يوم التحرير"، تكثف الشركات الأميركية مخزوناتها، وتضخ الشركات الأجنبية استثمارات أميركية، على أمل الحصول على إعفاءات جمركية من البيت الأبيض.
وغالباً ما تؤدي التعريفات الجمركية إلى تقوية عملة الدولة التي تفرضها، وبالتالي انخفاض تكلفة الاستيراد، وهو ما يعني أن أسعار السلع المستوردة قد لا ترتفع بعد فرض الرسوم الجمركية بفضل ارتفاع قيمة الدولار، بحسب ميران، لكن سير الأمور على هذا النحو غير مؤكد، حيث يتوقع محللون عديدون ارتفاع أسعار المستهلك في الولايات المتحدة نتيجة الرسوم.
الخطوة الثانية هي الجمع بين عصا التجارة وجزرة الدفاع. ويقول ميران إن "الأمن القومي والتجارة مترابطان تماماً". ويرى هو والإدارة الأميركية أنه على الدول التي تستفيد من المظلة الأمنية الأميركية أن تدفع ثمن هذه الحماية بطريقة ما. وهنا يأتي دور الحرب التجارية.
ويمكن للدول الراغبة في مواصلة الاستفادة من الحماية الأميركية اتخاذ خطوات لمساعدة الشركات الأميركية، بدءا من خفض الدعم المحلي لشركاتها، والموافقة على عدم الرد على الرسوم الجمركية الأميركية، والانضمام إلى الولايات المتحدة في فرض قيود تجارية على الصين، أو التعهد بضخ استثمارات كبيرة في الولايات المتحدة.
الخطوة الثالثة هي إضعاف الدولار مع المحافظة على سيطرته العالمية. ويعلن الرئيس ترامب ونائبه جيه.جي فانس، تفضيلهما لاستمرار الدولار كعملة احتياطي عالمية. وفي الوقت نفسه يريدان ارتفاع قيمة عملات الدول الأخرى التي يريان أن قيمتها المنخفضة تعطي صادرات تلك الدول ميزة غير عادلة على حساب السلع الأميركية. ولكن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى تدخلات منسقة من جانب البنوك المركزية الرئيسية في العالم، وهو أمر غير سهل لآن الدول المتضررة من الحرب التجارية الأميركية الحالية قد لا تكون مستعدة للتعاون مع واشنطن في سوق الصرف خلافا للحال في عام 1985 عندما وقعت الدول اتفاق "بلازا".
الخطوة الرابعة هي إصلاح فشل الخطوة الثالثة، حيث يمكن أن يساهم تدفق رؤوس الأموال الأجنبية أو شراء العملات الأجنبية في إضعاف الدولار. وبحسب اتفاق "مار أيه لاجو"، فإنه في حال تعذر تأمين جهد متعدد الأطراف، فإن لدى الولايات المتحدة طرقا بديلة أحادية الجانب لتحقيق أهدافها. وإحدى هذه الأفكار هي استخدام الرئيس قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية لفرض نوع من "رسوم الاستخدام" على الحيازات الأجنبية الرسمية من أصول الاحتياطي الأميركي، لتقليل جاذبيتها، وبالتالي تقليل الطلب على الدولار.
أما الخطوة الخامسة والأخيرة فهي تشجيع مجلس الاحتياط الاتحادي لدعم هذه الجهود الحكومية وتخفيف أي اختلالات في السوق. ونظرا لمخاطر ردود الفعل السلبية للسوق تجاه عدد من هذه الخطوات، فإن نجاح اتفاقية "مار أيه لاجو" يتطلب المساعدة من مجلس الاحتياط الاتحادي.
على سبيل المثال، إذا تسبب تحول البنوك المركزية إلى سندات الخزانة طويلة الأجل في عمليات بيع كثيفة لسندات الخزانة من المستثمرين الأفراد، فقد يتدخل مجلس الاحتياط لضمان الاستقرار.
وبشكل عام ترى الإدارة الأميركية أن اتفاق "مار أيه لاجو" وسيلة للمساعدة في تحقيق وعود ترامب الاقتصادية.
وبالطبع، يبحث البيت الأبيض عن سبل إبداعية إضافية لتحقيق اقتصاد أميركي ناجح. وقد يؤدي دعم العملات المشفرة التي تعد بمثابة دولار رقمي متاح عالميا، إلى زيادة الطلب على سندات الخزانة الأميركية المحتفظ بها كاحتياطيات من العملات المستقرة للحفاظ على "ربط" العملة وتعزيز استخدام الدولار عالميا. وقد يساعد هذا في خفض عوائد سندات الخزانة الأميركية وتقليل مخاطر السوق الناجمة عن بعض بنود اتفاق مار أيه لاجو.
أخيرا ورغم أن أغلب الأميركيين يؤيدون أهداف ترامب لزيادة قوة قطاع التصنيع وجعل الاقتصاد الأميركي أكثر مرونة وقوة، فإنهم إذا فهموا المخاطر التي تنطوي عليها سياسات ترامب وأفكار معسكر "مار أيه لاجو"، فمن غير المحتمل أن يواصلوا دعمه لأنهم سيجدون أنفسهم أمام وصفة كاملة للفشل وليست وصفة لتحقيق هذه الأهداف المرجوة.
0 تعليق