عندما كتب ابن خلدون «المقدمة» في القرن الرابع عشر، لم يكن في مخيلته أن مفاهيمه عن العمران البشري، ودورة حياة الدول، وأسباب النهوض والانهيار، ستجد طريقها بعد قرون إلى قاعات مجالس الإدارة في الشركات الحديثة.
ورغم أن ابن خلدون لم يعرّف «الشركات» بالمفهوم القانوني والمؤسسي الحالي، فإن تحليله العميق لسلوكيات الجماعات البشرية والأنظمة السياسية والاقتصادية يكشف مبادئ يمكن إسقاطها بسهولة على حوكمة الشركات اليوم.
إن حوكمة الشركات (Corporate Governance)، تعني ببساطة النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركة ورقابتها، مع التأكد من تحقيق التوازن بين مصالح المساهمين، والإدارة التنفيذية، وأصحاب المصلحة الآخرين. وفي هذا السياق، تحمل «المقدمة» كنزاً من الأفكار التي تساعد على فهم كيف يمكن أن تنجح أو تفشل المؤسسات، سواء كانت دولة في القرن الرابع عشر أو شركة تكنولوجية في القرن الحادي والعشرين.
من النشأة إلى الازدهار ثم الانحدار
يقول ابن خلدون: إن الدول تمرّ بمراحل: التأسيس بالقوة والعصبية، ثم التوسع، فالترف، فالفساد، فالانهيار. ويمكن أن نرى نفس المسار في الشركات:
* مرحلة التأسيس: الحماس، والمخاطرة، وقلة البيروقراطية، وروح الفريق القوية.
* مرحلة النمو: جذب المواهب، وتنويع المنتجات، وبناء السمعة.
* مرحلة النضج: استقرار الإيرادات، واعتماد سياسات صارمة، وتوسع الإدارة الوسطى.
* مرحلة الترف والجمود: البيروقراطية، وفقدان الابتكار، والاعتماد المفرط على النجاحات السابقة.
* مرحلة التراجع: خسارة الحصة السوقية، وتآكل القيمة، وانهيار الثقة.
النصيحة، على مجالس الإدارة أن تراقب علامات «الترف المؤسسي» مبكراً، مثل الإنفاق المبالغ فيه على المكاتب الفاخرة أو ضعف الاستثمار في البحث والتطوير.
إن شركة مثل «نوكيا» تمثل مثالاً معاصراً، إذ كانت رائدة في سوق الهواتف، لكن الركون للنجاح وعدم التكيف السريع مع الهواتف الذكية أدى لانهيار مكانتها.
العصبية.. روح الفريق والولاء المؤسسي
في فكر ابن خلدون، «العصبية» هي الرابط الذي يوحّد الجماعة ويمكّنها من التغلب على التحديات. وهذه الفكرة تنطبق على الشركات من حيث الثقافة المؤسسية.
في بدايات الشركات الناشئة، يسود الحماس المشترك بين المؤسسين والموظفين، ما يخلق قوة دفع كبيرة، لكن مع نمو المؤسسة، قد تتآكل هذه الروح إذا لم تعمل الإدارة على ترسيخها.
النصيحة: يجب أن تضع الشركات برامج لزيادة الانتماء، مثل المشاركة في صياغة الأهداف، وتحفيز الإبداع، ودعم العمل التطوعي الجماعي. إن شركة «جوجل»، على سبيل المثال، حافظت على قدر من «عصبية الابتكار» عبر بيئة عمل تشجع على المشاريع التجريبية.
العدالة والمساءلة أساس الاستقرار
يؤكد ابن خلدون، أن الظلم مؤذن بخراب العمران، وأن الأنظمة تنهار حين يفقد الناس الثقة بعدالة الحكم. وفي بيئة الشركات، الظلم يعني الفساد المالي، والمحسوبية، والتلاعب بالمعلومات، وعدم الشفافية.
وفضائح مثل ما حدث في شركتي «إنرون» و«فولكسفاغن» تُظهر كيف يمكن أن يؤدي غياب المساءلة إلى كارثة مالية وسمعة مدمّرة. إن غياب الرقابة الداخلية الفعالة يمكّن المديرين من اتخاذ قرارات تضر بالمساهمين والعملاء على المدى البعيد.
النصيحة، يجب على الشركات إنشاء لجان تدقيق مستقلة، وتطبيق سياسات إفصاح صارمة، وحماية المبلغين عن المخالفات. إن العدالة الداخلية لا تحافظ فقط على السمعة، بل تحفز الموظفين على الالتزام والإبداع.
الاقتصاد القوي وترشيد الموارد
أشار ابن خلدون إلى أن زيادة الضرائب والترف المفرط يضعفان الإنتاج. وفي عالم الشركات، يمكن تشبيه الضرائب المفرطة بالتكاليف الباهظة أو سياسات التسعير التي تثقل العملاء أو الموظفين.
إن الإفراط في استنزاف فرق العمل أو تحميل العملاء أسعاراً مبالغاً فيها قد يعطي أرباحاً قصيرة الأجل، لكنه يضر الولاء والعلاقات طويلة الأجل. وشركات مثل «أمازون» حققت نمواً ضخماً عبر سياسة إعادة استثمار الأرباح في تحسين الخدمات بدلاً من السعي وراء أرباح سريعة.
النصيحة: على الشركات أن توزّع الموارد بحكمة، وأن توازن بين المكافآت الفورية للمساهمين والاستثمارات الاستراتيجية للمستقبل.
التوازن بين المركزية والمرونة
شرح ابن خلدون كيف تتحول الأنظمة الناجحة من المرونة والبساطة في بداياتها إلى المركزية المفرطة والبيروقراطية التي تخنق الإبداع. وفي الشركات، يؤدي الإفراط في المركزية إلى بطء اتخاذ القرار، وانخفاض القدرة على الابتكار، وفقدان الاتصال مع السوق.
وعلى العكس، اللامركزية الكاملة قد تسبب فوضى وفقدان السيطرة على العلامة التجارية.
النصيحة: تبنّي نموذج هجين يمنح الفروع وفِرق العمل حرية الابتكار مع الحفاظ على إطار واضح للحوكمة. الاستشراف والاستعداد للتغيير
كان ابن خلدون بارعاً في قراءة المؤشرات المبكرة للانحدار، محذراً من أن التغيير سنة حتمية في العمران البشري. إن الشركات التي تتجاهل المؤشرات التحذيرية (مثل تراجع الحصة السوقية أو تغيّر سلوك العملاء) تخاطر بالانهيار. النصيحة: على الشركات تطوير آليات «ذكاء استراتيجي» لمراقبة الأسواق، والاستثمار في الابتكار، واختبار نماذج جديدة قبل أن تصبح الحاجة إليها مصيرية.
الحوكمة كأداة لحفظ «العمران المؤسسي»
إذا استعرنا لغة ابن خلدون، فإن الشركة الناجحة هي «عمران مؤسسي» يقوم على:
* العدل في المعاملات (الشفافية والمساءلة). والعصبية الإيجابية.وكذلك، تجديد مستمر (تجنب الركود). وإدارة الموارد بحكمة.
إن حوكمة الشركات ليست مجرد لوائح وقوانين، بل هي فهم عميق لديناميكيات القوة والثقافة داخل المؤسسة، وهي بالضبط ما برع ابن خلدون في تحليله.
0 تعليق