عاجل

"صلاة القلق".. صرخة عالية في وجه وحشٍ غير مرئي! - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتبت بديعة زيدان:

 

تأتي رواية "صلاة القلق"، للروائي المصري محمد سمير ندا، كعمل أدبي كثيف ومُركّب، يغوص في أعماق النفس البشرية تحت وطأة العزلة والقهر والغموض، فهي ليست مجرد حكاية، بل تشريح نفسي لمجتمع صغير معزول، "نجع المناسي"، الذي يجد نفسه فجأة أسير وباء غامض لا يصيب الأجساد فحسب، بل يتسلل إلى العقول والنفوس ليحوّل الحياة إلى كابوس جماعي.
تبدأ الأحداث بسقوط "حجر ناري" أو "شهاب" بالقرب من نجع المناسي، وهي قرية معزولة في صعيد مصر محاطة بحزام من الألغام بسبب حرب تدور رحاها منذ عشر سنوات.
هذا الحدث الكوني المفاجئ يصبح نقطة التحول الكارثية، فبعده مباشرة، يبدأ وباء غريب في التفشي بين الأهالي، بحيث يتساقط شعر رؤوسهم وحواجبهم، ليصبحوا أشبه بالسلاحف في مظهرهم وخمولهم، لكن الوباء الحقيقي الذي يستشري "القلق"، وحش غير مرئي يطوف فوق الدور، يفسد العلاقات، ويزرع الشك والعداوة بين الجميع.
في قلب هذا النجع المعزول، تتصارع سلطتان: "الشيخ أيوب المنسي"، شيخ الجامع وابن الولي "جعفر" الذي يُشاع أنه عاد من الموت، ويُمثل السلطة الدينية التقليدية، لكنه هو نفسه يعاني من اهتزاز إيمانه وعجزه عن تقديم تفسيرات شافية أو حلول للمعضلة، ما يجعله أسيراً لقلقه وشكوكه، و"خليل الخوجة"، الممثل الرسمي للدولة في النجع، والذي هو أيضاً المصدر الوحيد للأخبار عبر جريدته "صوت الحرب"، والمتحكم في المؤن والبضائع، ليمثل الخوجة السلطة السياسية الغامضة التي تغذي الأهالي برواية رسمية عن حرب مستمرة ونصر وشيك، بينما تزداد عزلتهم وبؤسهم.
تتعمق المأساة مع اختفاء شخصيات حيوية من النجع، مثل: "شواهي"، الغجرية التي كانت تمثل الفرح والحياة، و"وداد"، القابلة الوحيدة ومصدر الخبرة التقليدية، في تزامن مع ظهور كتابات غامضة مليئة بالتهديد والوعيد على جدران كل البيوت، ما يؤجج نار العداوة وانعدام الثقة بين الجيران.
عبر "جلسات" متتالية، نرى هذا الواقع من عيون شخصيات مختلفة، لكل منها صلاتها الخاصة مع "القلق": "نوح"، النحّال المثقف المعذّب الذي ينتظر عودة ابنه الوحيد "مراد" من الحرب منذ عشر سنوات، و"محروس" الدباغ الذي يمثل المواطن البسيط الحائر بين إيمانه بالشيخ وخضوعه للخوجة، و"عاكف"، الكلّاف الذي فقد نياقه ويبحث عن خلاص لمواشيه، و"محجوب" النجار الذي ينتظر ولادة طفله المعجزة في ظل غياب القابلة.
وتتفرد "صلاة القلق" ببنائها الفني المتقن، فالرواية لا تُروى بصوت واحد خطي، بل تتشكل من "جلسات"، كل جلسة تمثل شهادة ومنظور إحدى شخصيات النجع.
هذا الأسلوب متعدد الأصوات يغمر القارئ في دوامة القلق الجماعي، حيث نرى الحدث الواحد، مثل سقوط الشهاب أو كتابات الجدران ينعكس بصور مختلفة في وعي كل شخصية، ما يخلق لوحة فسيفسائية غنية بالتفاصيل النفسية.
المفاجأة الكبرى تكمن في الإطار السردي للرواية، حيث تبدأ بمقتطف من تقرير طبيب معالج في العام 1988، وتنتهي بتقرير حالة مفصل وورقة من "كاتب الجلسات"، الذي يتضح أنه "حكيم"، ابن الخوجة الأخرس. هذا الإطار يقلب الرواية رأساً على عقب؛ فما كنا نقرؤه ليس مجرد حكاية، بل تفريغ علاجي لمجموعة من المرضى في مصحة نفسية. الكتابة هنا ليست أداة للحكي فقط، بل صلة الشخصيات الوحيدة بالعالم وعملية علاجية ووسيلة لمقاومة الانهيار الكامل.
لغة الرواية شعرية، رمزية، ومكثفة، حيث يستخدم الكاتب صوراً حسية قوية لوصف حالة القلق، مثل تحوّل الناس إلى "سلاحف" أو الإحساس المستمر بالتربص. كما أن توظيف أغاني عبد الحليم حافظ في فواصل الرواية يشكل خلفية صوتية لعصر بأكمله، حيث تتناقض أحلام الوحدة والنصر التي غنى لها العندليب مع الواقع المرير الذي يعيشه أهل النجع.
الرواية في جوهرها عمل سياسي ووجودي عميق يتناول مواضيع عدة، بينها: "القلق" كبطل للرواية، حيث إن "القلق" ليس مجرد شعور عابر، بل كيان وحشي يستعمر المكان والأشخاص، وهو ما تنجح سردية ندا في تجسيده كقوة فاعلة تغيّر سلوك البشر وتدفعهم نحو الجنون والعداوة.
وبينها أيضاً معالجته لثيمة الدولة وسردية الخوف، عبر شخصية "خليل الخوجة" وتمثلاتها، وثيمة الذاكرة والصدمة، عبر شخصية "نوح النحّال"، التي تجسد صدمة المثقف في مواجهة قمع الدولة، في وقت يعيش فيه النجع بأكمله صدمة جماعية بسبب الحرب التي لا تنتهي، والتي علّقت الزمن وجعلت الماضي (ذكريات الأبناء) والحاضر (الانتظار) والمستقبل (العودة المستحيلة) كتلة واحدة من الألم.
وكون الرواية قائمة على الرمزية الكثيفة، فهي مليئة بالدلالات لأحداث بعينها، حيث إن "تمثال الزعيم عبد الناصر المكسور يمثل انهيار المشروع القومي الكبير، وتحوله إلى خرافة مخيفة"، و"تساقط الشعر انعكاس للانهيار الداخلي وفقدان الهوية الإنسانية"، أما الصلاة التي يدعو إليها الشيخ أيوب، فهي محاولة يائسة للبحث عن معنى وخلاص روحي في عالم فقد كل معانيه.
"صلاة القلق"، الصادرة عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع في تونس، وبطبعة فلسطينية عن دار طباق للنشر والتوزيع، والفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) بدورتها الأخيرة، رواية استثنائية تتجاوز حدود الحكاية التقليدية لتقدم تجربة قرائية غامرة ومعقدة، مشكلةً صرخة رمزية ضد النسيان والقهر، واستكشافاً عميقاً لما يحدث لعقل جماعي عندما يتم عزله وتغذيته بالخوف والكذب. إنها رواية عن قوة الكتابة كفعل أخير للمقاومة، ومحاولة يائسة لترتيب فوضى الذاكرة في مواجهة عالم فقد منطقه.

 

0 تعليق