من النوفرة إلى القشلة.. مقاهي دمشق تستعيد روحها مع موجات العودة - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

دمشق- تحافظ المقاهي الشعبية في العاصمة السورية دمشق على مكانتها الثقافية الرفيعة، ودورها الاجتماعي الرائد في خلق فضاء للتعارف والتواصل بين المواطنين، وسط حضور شاعري ورمزي في وجدان الدمشقيين تحديدا كجزء من ذاكرتهم الجمعية.

هذه المقاهي تشهد انتعاشا ملحوظا في الآونة الأخيرة بعد عودة مئات الآلاف من السوريين إلى بلادهم مقيمين أو زائرين، ونشاط حركة السياحة لا سيما العربية، حيث تمثل هذه المقاهي ذاكرة المدينة الحيّة، ومرآة لمزاج أهلها، ووجهة لكل من يبحث عن لحظة صفاء أو لحظة إشباع حنين طال انتظارها.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

وتحاول بعض هذه المقاهي الحفاظ على هويتها التقليدية رغم تحديات التحديث التي تواجهها، فتمزج بين أصالة عريقة وتحديث مطلوب، كاشفة عن قدرتها على التكيّف مع روح العصر من دون أن تفقد جوهر هويتها الدمشقية.

فما أبرز هذه المقاهي؟ وما تقاليدها المستمرة إلى يومنا؟

مقهى النوفرة.. الأقدم في سوريا

على بعد خطوات من البوابة الخلفية للجامع الأموي الكبير، وبين أزقة دمشق القديمة، لا يزال مقهى النوفرة الشعبي حاضرا بحلته التراثية منذ أزيد من 3 قرون، محتفظا بملامحه الأصيلة بالرغم من تبدل الأزمنة وتحولها.

فيكفي أن يلقي المرء نظرة على الكراسي الخشبية العتيقة، أو طاولات المعدن الصغيرة، أو المقعد الملكي المخصص للحكواتي، حتى يدرك أنه أمام فصل من رواية تاريخية نسي راويها أن يصوغ لها نهاية؛ فظلت تُروى من تلقاء نفسها مسطرة أجمل العبارات.

وظل مقهى "النوفرة" سنوات محجا للأدباء والمثقفين والسياح الأجانب، وواحدا من أبرز معالم الحياة الاجتماعية في العاصمة. لكن مع اندلاع الثورة السورية في 2011، تراجعت حركة السياحة والأنشطة الثقافية بصورة كبيرة؛ مما حوّل المقهى إلى "مكان يقتصر زواره على المارة المتعبين من السير" على حد تعبير مالكه فادي الرباط.

ويضيف الرباط في حديث للجزيرة نت، "لكن تزامنا مع التحرير في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعودة آلاف السوريين إلى دمشق مشتاقين إلى أماكنهم الأثيرة، استعادت النوفرة بعضا من بريقها ودورها الغابر ملتقى للمثقفين والسياح، والأهم من ذلك للمشتاقين الذين يقدرون القيمة المعنوية والأثرية لهذا المكان".

قهوة النوفرة
يقع مقهى النوفرة على بعد خطوات من البوابة الخلفية للجامع الأموي الكبير في العاصمة السورية دمشق (الجزيرة)

ورغم أن الحداثة قد أرخت بظلالها على معظم المقاهي الشعبية في دمشق، فإن النوفرة بقي بمثابة أيقونة دمشقية عريقة لم تطلْها يد التحديث، ولم يعبث بملامحها الزمن. وعن ذلك يقول الرباط، "نحافظ على تقاليد المقهى كما هي منذ 100 عام، وخاصة تقليد الحكواتي؛ الذي يحضر يوميا ليروي للناس قصصا تاريخية عن أبطال تلك الأزمنة".

إعلان

ويشير الرباط إلى أن ثمة حكايتين أساسيتين يرويهما الحكواتي في النوفرة، وهما: حكاية الملك الظاهر بيبرس وقصّة الشاعر والفارس الشجاع عنترة بن شداد. لافتا إلى أن رواد المقهى عادة ما لا يكون هدفهم الاستماع إلى الحكاية من حيث الحبكة والأحداث، وإنما فقط الاستمتاع بأسلوب الحكواتي وهذا التقليد الحي منذ مئات السنين.

وفضلا عن ذلك، لا يقدم النوفرة خدمات الألعاب التقليدية كطاولة الزهر وورق الشدّة (الكوتشينا)، بل ويذهب القائمون عليه أبعد من ذلك فيمتنعون حتى عن تقديم خدمة الإنترنت للزبائن.

ويرى الرباط أن الغرض من ذلك هو توجيه رسالة ودعوة غير مباشرة مفادها، "الناس هنا يجب أن تجلس مع بعضها بعضا، وتحادث بعضها بعضا، لا أن تحمل هواتفها المحمولة وتلعب. فنحن بحاجة أحيانا إلى الهدوء من ضجيج التكنولوجيا، وأيضا إلى الإصغاء للآخرين بتركيز حقيقي".

وتعود ملكية مقهى النوفرة لعائلة الرباط منذ نحو 100 عام، بينما يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1669، وهو بذلك أقدم مقهى في سوريا ومنطقة بلاد الشام قاطبة.

لقاء التقليد بالحداثة

ومن قلب شارع المتنبي وسط دمشق، يطل مقهى الكمال، أحد أكبر المقاهي الشعبية بدمشق، ويعود تاريخ تأسيسه إلى مطلع القرن العشرين، ويشغل حيزا معتبرا من ذاكرة الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية في سوريا؛ حيث كان ملتقى غير رسمي للسياسيين والمثقفين والفاعلين في الشأن العام السوري منذ أربعينيات القرن الماضي تزامنا مع جلاء الانتداب الفرنسي عن البلاد في عام 1946.

ولعل أكثر ما يميز المقهى من وجهة نظر أبو علاء -مدير الصالة الصيفية- حفاظه، إلى اليوم، على التقاليد والألعاب الشعبية الملتصقة بذاكرة الدمشقيين وعلى رأسها "طاولة الزهر"، حيث يسمع الداخل إليه أصوات النرد تتردد في القاعة وكأنها جزء من موسيقى المكان.

أما نرجيلة "التنباك" فلا تزال هي الأخرى تحضر بوصفها طقسا يوميا بالنسبة لزبائن الكمال بعيدا عن النراجيل الجديدة والسجائر الإلكترونية التي اجتاحت المقاهي، ويُقدم إلى جانب نرجيلة التنباك فنجان "شاي الخمير" مُعدا وفقا للطريقة الدمشقية التقليدية.

الصالة الصيفية في قهوة الكمال
الصالة الصيفية في مقهى الكمال تجتذب كثيرا من الزوّار في الصيف الحار (الجزيرة)

وعن طبيعة رواد الكمال اليوم، يقول أبو علاء للجزيرة نت، إن معظمهم من مثقفي جيل السبعينيات الأوفياء لمقاعدهم بالكمال، أو شباب يريد تجربة شيء مختلف عمّا اعتادوه في المقاهي المعاصرة، أو العائدين من السفر "ممن يودون التأكد من أنهم وصلوا إلى دمشق حقا"، إلى جانب الفقراء والعمال والتجار، وأيضا الزوار إلى العاصمة من المحافظات الأخرى من جميع الأعمار والفئات والخلفيات الثقافية.

ويتألف الكمال من قسمين: شتوي مغلق، وآخر صيفي مكشوف تتوسطه بحرة دمشقية مُزخرفة، ويقصده الزبائن في أيام الحر للجلوس في الهواء الطلق، ومتابعة المباريات أحيانا؛ حيث تنقل على شاشة عريضة تتصدر باحة القسم الصيفي.

وعلى بعد أمتار قليلة من المقهى العريق، يقع "الكمال الجديد" وهو مقهى يحمل الاسم نفسه، لكن بطابع ومضمون مختلف كليا، فديكوراتُه عصرية، وأضواؤه ساطعة، وشاشات عرضه لا تنطفئ، ومقاعده وثيرة، ويقدم قائمة طويلة من مشروبات معظمها غربية.

إعلان

وهكذا يبدو شارع المتنبي شاهدا على مفارقة نادرة، فاجتماع الكمال والكمال الجديد فيه يعكس صورة دمشق الحقيقية: عاصمة لا تفرط في تاريخها العريق، لكنها منفتحة في الوقت نفسه على كل جديد حضاري.

هوية مزدوجة

في بيت دمشقي يعود بتاريخه إلى القرن التاسع عشر، أسس المعماري السوري سومر الهزيم مقهى القشلة الشهير في حي باب شرقي بدمشق القديمة قبل 5 سنوات؛ إذ رمّم الشاب الثلاثيني الأرضيات والغرف والأقواس المتداعية بمواد تقليدية حافظت على الطابع الدمشقي الأصيل لهذا المكان الأثري.

ويلفت الهزيم، في حديث للجزيرة نت، إلى أنه أشرف بنفسه على تأثيث المقهى ليحافظ على هوية المكان، ولكن دون أن يغفل عن مواكبة روح الحداثة التي يبحث عنها الزوار، موضحا المعماري أنه جمع المواد المتوافرة لديه من ورشات سابقة وهي ذات طابع معاصر، وأضاف إليها بعض الأثاث المرتبط بصناعة السنارة والمكرميات (صناعات تقليدية)، ليتمكن من تصميم هوية "تجمع بين الكلاسيكية الدمشقية القديمة والحالة العصرية الحديثة" مع ترك مساحة مخصصة لعرض الأعمال الفنية.

مقهى الكمال الجديد
تأسس مقهى الكمال الجديد في بيت دمشقي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر (الجزيرة)

ويضيف الهزيم أن للقشلة هوية مزدوجة، ففيها "يمكن لمن يحب المنازل الدمشقية أن يستمتع بالعناصر التراثية الموجودة وزيارة المعرض الفني لرؤية الاعمال والتحف اليدوية الدمشقية، ولمن يحب الديكورات المعاصرة وأنماط الإضاءة الحديثة أن يستمتع هو الآخر".

ويشير المعماري إلى أن المقهى نجح منذ افتتاحه في جذب فئة الشباب خاصة، إذ تتراوح أعمار معظم رواده بين 18 و30 عاما، وقد بدأت الفئة نفسها تتنوع بعد التحرير، لتشمل زوارا أجانب وسوريين عائدين سمعوا عن المكان وأرادوا زيارته.

ويقدم القشلة لزواره تجربة فريدة تبدأ مع متعة وجمالية الجلوس في صحن دار عربي تستظل طاولاته بأشجار الليمون والنارنج، وتمر بالمعرض الفني المتنوع بالأعمال والتحف اليدوية الدمشقية القديمة، ولا تنتهي عند مشاركة الأصدقاء بـ"دقّ" طاولة زهر أو شطرنج على أنغام شرقية وغربية.

0 تعليق