وائل سعيد
Published On 5/9/20255/9/2025
|آخر تحديث: 17:00 (توقيت مكة)آخر تحديث: 17:00 (توقيت مكة)
بعد رحلة سينمائية امتدت لأكثر من 50 عاما، يقرر المخرج الأميركي وودي آلن أن يظهر أمام جمهوره من زاوية مختلفة، أكثر هدوءا وربما أكثر عزلة، لكنها في المقابل تمنحه مساحة أوسع من الحرية؛ ألا وهي عالم الرواية. فقد أصدر آلن أخيرا أولى محاولاته الروائية، والتي وصفها مدير دار النشر بقوله: "ربما انتظر آلن 90 عاما ليكتب رواية، لكن الانتظار كان جديرا بالاهتمام".
ويستعد المخرج المخضرم لبلوغ عامه الـ90 في 30 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بعد مسيرة أثمرت نحو 50 فيلما، نال كثير منها تقدير النقاد وحظي بانتشار جماهيري واسع.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listهذا التحول يفتح الباب واسعا أمام سؤال لا يمكن تجاوزه: لماذا قد يلجأ مخرج سينمائي إلى الكتابة الأدبية، مستعيضا بالكلمات عن وسيلته الأوسع انتشارا وتأثيرا، الصورة؟ وفي حالة وودي آلن، يبدو السؤال أكثر إلحاحا، لا سيما أنه ليس غريبا عن عالم الكتابة، فقد خاض من قبل تجارب متنوعة في القصة والمقالة والسيرة الذاتية، فماذا يدفعه اليوم إلى كتابة رواية على وجه التحديد، خاصة أن الفروق التقنية والجوهرية بين فنّي الرواية والقصة القصيرة، على سبيل المثال، قد لا تعني الكثير لمخرج مولع بالكتابة ليس إلا، ولن تخرج تجربته عن تطور طبيعي لهوسه بالحكاية.
وربما لم يعد هذا التداخل بين السينما والأدب أمرا نادرا، فقبله خاض التجربة كثير من صناع الأفلام، مثل كوينتن تارانتينو وديفيد لينش، بل حتى ممثلين كالنجم توم هانكس، أما في العالم العربي، فقد أصدر المخرج المصري خيري بشارة روايته الأولى منذ عامين، والغريب أنه عبّر لاحقا عن رغبته في تحويلها إلى فيلم.
ومن المقرر أن تصدر رواية وودي آلن الجديدة في سبتمبر/أيلول عن دار "سويفت برس"، بعنوان "ما الأمر مع باوم؟"(What’s With Baum؟)، وهو عنوان يعيد إلى الأذهان اسم فيلمه الأول "ما الأمر، تايجر ليلي؟" الذي عُرض منتصف الستينيات، في إشارة ذكية إلى بداياته السينمائية.
إعلان
وتقع الرواية في 160 صفحة، وتدور أحداثها -بحسب ما أعلنته الدار- حول لحظة تداعي "باوم"، وهو صحفي يهودي في منتصف العمر تحوّل إلى كتابة الرواية والمسرح، محققا نجاحا لافتا لم يلبث أن تراجع بصورة مفاجئة. وتبدأ رحلة الانهيار مع تخلي ناشره عنه، إثر مراجعات نقدية فاترة طالت أعماله الأخيرة، لتتفاقم حالته مع تصدع زواجه الثالث وهواجسه المتكررة بشأن خيانة زوجته، وسط تهامس الغرباء من حوله. إلى أن يكتشف سرا قد يغير أوراق اللعبة، إن قرر الإفصاح عنه.
وتصف دار النشر الرواية بأنها "فكاهية، ذكية، آسرة، وإنسانية بشكل رائع"، وتراها "صورة لمثقف مشلول بالقلق العصابي حيال عبثية الحياة وفراغها"، وهو وصف يكاد يطابق البورتريه النفسي لوودي آلن نفسه، أو على الأقل، يجسّد الطيف المعتاد من شخصياته التي ملأت أفلامه لعقود.
لقد عاش وودي آلن كأنه بطل في أحد أفلامه: ساخر، عصيٌّ على التصنيف، ومثير للجدل إلى حدّ التشظي، فمن ساندي بيتس في "ذكريات غبار النجوم" (Stardust Memories)، إلى هاري بلوك في "تفكيك هاري" (Deconstructing Harry)، ومن آلڤي سينغر في "آني هول" (Annie Hall) إلى مثقفي "منتصف الليل في باريس" (Midnight in Paris)، وكلها عناوين لعوالم تؤكد على تمثّل الذات أو تشكّلها داخل الحكاية، ربما سيعيد آلن في روايته أجواء شخصيته الأثيرة لرجل مهووس يبحث عن جدوى للحياة بينما تغرق سفينته الشخصية في بحر من الفضائح، والعبث الوجودي، في محاولة لمواجهة الذات عبر الكتابة أو كمن يبوح في طقس تطهري، بعيدا عن أضواء الكاميرا وأقنعة السينما.
الرجل الذي كتب نفسه
تتسم السينما عند آلن بعدد من الملامح المتباينة، قد تجتمع بكاملها في فيلم أو تتسرب في أعمال مفترقة، كمجمل أعماله. وكما هو معروف تأتي الذاتية في مقدمة هذه الملامح، وكيف لا، وهو واحد من أشهر المحسوبين على سينما المؤلف. ورغم أهمية وتميز التجربة السينمائية لوودي ألن، فقد اصطبغ أسلوبه، في كثير من الأحيان، بفذلكة فكرية وفنية لم يسلم منها حتى الفطاحل ممن سبقوه. وغالبا ما يتحرك آلن في معظم أعماله وفق خلطة يسعى إلى تطويرها مع كل فيلم، ينجح حينا ويخفق في أحيان أخرى، لكن عوالم مشروعه السينمائي ظلت واضحة، تكرّسها ثيمات لا يكاد يخلو منها فيلم لعل من أبرزها، "الخيانة. الحظ. الموت. القدر" والقرارات المصيرية أو حتى العادية منها، بل والتافهة أيضا، التي قد تغير مجرى الحياة للفرد بلا مبرر أو منطق.
تركيبة تسخر من جدّية الوجود، ومن هوس العمق الذي أودى بكثير من الحيوات، لكنها لا تنفصل عن ذلك تماما، إذ تستدعيه عبر مونولوجات طويلة أو حوارات مشبعة بالفلسفة والمفارقة. يضاف إلى هذا حرصه المبالغ فيه على الطابع الكوميدي الساخر، أحيانا إلى حد الإقحام، ما يتجلى في عدد من أعماله بنسبة لا يُستهان بها. كذلك، يتسم كثير من شخصياته بما يشبه العصابية والانفعال الزائد، تتحدث كأنها تيارا ذهنيا متدفقا لا ينقطع، ما يذكّرنا بملامح وتركيب الشخصية عند المخرج المصري العالمي يوسف شاهين، إذ الغلبة دائما للاندفاع والقلق الداخلي.
نزع القداسة عن العالم
من الواضح أن وودي آلن عاش حياة عائلية معقدة ومثيرة للجدل، لا سيما على مستوى علاقاته النسائية، حتى وإن تكلّل بعضها بالزواج. وربما يُجسّد الملمح الأبرز والمتكرر في هذه العلاقات مقولة سارتر الشهيرة" الجحيم هو الآخرون"، وهو ما يتجلى مبكرا منذ علاقته بوالديه؛ إذ يصف في مذكّراته حياتهما المشتركة بأنها "مذبحة كلامية" استمرت 70 عاما "بدافع الكراهية، على ما أظن".
إعلان
قد يكون هذا التكوين العائلي ساهم لاحقا في تشكيل سمتين أساسيتين في شخصيته؛ أولهما ميله المفرط للثرثرة، الذي يطغى على أفلامه وأحاديثه، أما الأخرى فهي رؤيته المتشككة وغرامه بنزع القداسة عن العالم ورموزه، وعن أقرب العلاقات الإنسانية، بوصفه نموذجا عصريا لفكرة "اللامنتمي"، حتى إنه حين يهدي كتابه إلى زوجته الممثلة سون يي، يقول: "كنت أطعمها بيدي، ولكن تفاجأت بذراعي مفقودة".
يشير الجزء الأول من عبارة آلن إلى علاقته القديمة كزوج أم لسون يي، قبل ما يزيد على 3 عقود، حين كان مرتبطا بأمّها بالتبنّي، الممثلة الأميركية ميا فارو، وكان يعتاد على إطعامها بيديه، كما يقول، بينما يأتي الجزء التالي من العبارة مشحونا بالسخرية والمرارة، منه ومنها على حد سواء.
أما عن بداية علاقته بميا فارو، فيقول في مذكراته: "وجدتُ الأمر مسليا، كأنني في مسلسل كوميدي، أن أنزلق في علاقة مع امرأة لديها 7 أطفال". لكن هذه العلاقة لم تظل مجرد قصة عاطفية مأزومة، بل تحوّلت إلى نزاع قانوني واسع النطاق، كأسوأ دراما سوداء عاشها آلن، بعد اتهامه بالتحرش الجنسي بابنتهما بالتبنّي ديلان فارو، حين كانت طفلة في أوائل التسعينيات، وذلك مع صعود حركة "أنا أيضا" (MeToo)، لتعود إلى واجهة الرأي العام وتؤثّر بشدة على صورة آلن ومسيرته.
وبلغت الأزمة ذروتها حين أعلن العشرات من موظفي دار النشر هاشيت إضرابهم في نيويورك عام 2020 احتجاجا على نشر مذكرات آلن "بمناسبة لا شيء" (Apropos of Nothing)، كما انتقد نجله، الصحفي رونان فارو، قرار النشر مؤكدا دعمه الكامل لرواية شقيقته.
أمام الفضائح الأخلاقية التي لاحقت وودي آلن في سنواته الأخيرة، لم يكن مفاجئا أن تلقى مذكراته استقبالا فاترا، وهو ما تكرر أيضا مع فيلمه الأخير ضربة حظ (2023)، الذي خذله الحظ نقديا وجماهيريا على حد سواء. إلا أن حياة آلن الصاخبة والمتشابكة دفعت كاتب السير الشهير باتريك ماكجيليجان لتأليف سيرة موسعة عنه بعنوان "وودي آلن: السخرية من الخديعة" (WoodyAllen: A Travesty of a Mockery of a Sham)، جاءت في 848 صفحة، وصدرت مؤخرا عن دار "نورتون"، لتنضم إلى سلسلة من السير التي كتبها لرموز مثل ألفريد هيتشكوك، أورسون ويلز، جاك نيكلسون، وكلينت إيستوود؛ الذي وصل به الغضب إلى مقاضاة الكاتب بعد صدور سيرته "كلينت.. حياة أسطورة".
ومن جانبه، لم يكف وودي آلن عن نفي جميع الاتهامات الموجهة إليه، ساخرا منها أحيانا، أو مقللا من شأنها حينا آخر بوصفها "دعاية صحفية هزلية". وفي الوقت نفسه لم يُخفِ انزعاجه من تواطأ الجميع على عدم دعمه. يقول في أحد فصول مذكراته، بنبرة من يلقي خطبة على جمهور غائب: "أيها الناس، أنتم تقرؤون سيرة ذاتية لرجل أمّي، كاره للبشر، انطوائي، غير مثقف"، هذا الإحساس بالخذلان سيعود أكثر من مرة بين السطور، ويبلغه ذروته حين ينصح قارئه بسخرية سوداء: "أن تكون كارها للبشرية، فهذا أفضل فالناس لن يخيبوا ظنك أبدا!".
0 تعليق