كتب محمد الجمل:
واصلت "الأيام" رصد مشاهد جديدة من العدوان الإسرائيلي المُتواصل على قطاع غزة، ووثقت استمرار الجرائم الإسرائيلية في القطاع، مع التركيز على نقل أبرز القصص التي توثق المعاناة الإنسانية، مع رصد تطورات العدوان والنزوح في مدينة غزة.
ومن أبرز المشاهد الجديدة التي نقلتها "الأيام"، مشهد يرصد تواصل الغارات والمجازر في قلب "المناطق الإنسانية"، ومشهد آخر بعنوان "رحلة إلى المجهول"، ومشهد ثالث جاء تحت عنوان "رحل جائعاً ومقهوراً".
غارات وقتل في المناطق الإنسانية
تتعرض ما تُسمى "المناطق الإنسانية" جنوب ووسط قطاع غزة، لغارات وقصف بصورة يومية، خاصة في مدينتَي خان يونس ودير البلح.
ورغم أن الاحتلال هو من وجّه النازحين إلى تلك المناطق، إلا أن طائراته ودباباته ما زالت تقصف تلك المناطق على مدار الساعة، ويومياً يسقط شهداء وجرحى فيها.
ووصل الأمر إلى درجة استهداف عائلات نزحت من مدينة غزة، بعد ساعات فقط على وصولها إلى تلك المناطق، إضافة إلى ارتكاب مجازر في قلب المخيمات التي تقع ضمن المنطقة الإنسانية، كما حدث قبل يومين في منطقة "العطار"، بمواصي خان يونس.
وذكر المواطن أمجد عامر أن مُسمى المناطق الإنسانية الآمنة هو مصطلح كاذب، فلا يمر يوم دون أن تتعرض هذه المناطق للغارات، حتى في ذروة ساعات النهار، التي من المفترض أنها تشهد ما سماه الاحتلال "هدنة تكتيكية"، من المفترض أن تتوقف فيها الغارات.
وأشار عامر إلى أن المُسيّرات تُحلّق باستمرار فوق تلك المناطق، ورصاص الدبابات والقناصة يضرب الخيام، والقذائف تتساقط على المخيمات المُكتظة بالنازحين.
وقال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان: إن تصعيد جيش الاحتلال استهداف النازحين في منطقة "المواصي" يحوّل "المنطقة الإنسانية" إلى مصيدة للموت، في إطار سياسة منهجية تقوم على نفي الأمان عن أي مكان يتواجد فيه المواطنون، وتحويل كل ملاذ إلى هدف، ضمن حملة الإبادة الجماعية الهادفة إلى القضاء على الفلسطينيين في قطاع غزة.
وأكد "الأورومتوسطي" أن جيش الاحتلال يُطلق النار بشكل مباشر على النازحين داخل خيامهم في منطقة "المواصي" جنوب غربي قطاع غزة، ما يخلّف قتلى وجرحى في جريمة تتكرر بشكل يومي تقريباً، دون وجود أي ضرورة عسكرية أو أمنية.
وأوضح المرصد أن جيش الاحتلال يستهدف خيام النازحين في منطقة "المواصي" بنيران دقيقة من القناصة، وأخرى عشوائية من الطائرات المسيّرة والآليات العسكرية القريبة من المنطقة، إلى جانب الغارات الجوية والقصف المدفعي المتكرر، بينما يزعم في الوقت ذاته أنها منطقة إنسانية، ويأمر أكثر من مليون شخص من سكان مدينة غزة بالنزوح إليها.
ولفت "المرصد" إلى أن فريقه الميداني وثّق خلال الأيام الماضية حوادث متكررة لاستهداف خيام النازحين بشكل مباشر في المنطقة، ما أدى إلى استشهاد عشرات المدنيين وإصابة آخرين بجروح متفاوتة، فضلاً عن تدمير خيامهم وما تبقّى من مقتنياتهم الشخصية التي تمثل الملاذ الأخير لهم.
رحلة إلى المجهول
ترتسم علامات الحزن العميق على وجوه آلاف النازحين وهم يغادرون مدينة غزة باتجاه مناطق جنوب ووسط القطاع، بعد أن ودعوا منازلهم، وحاراتهم، وشوارعهم. فالنازحون بدوا في حالة نفسية سيئة وهم يغادرون المدينة ويحملون ما استطاعوا من حاجيات متجهين إلى المجهول.
وقال النازح وليد شاكر: إنه اضطر لترك منزله في مناطق شمال غربي مدينة غزة للنجاة بحياته وحياة أسرته، وبالكاد استطاع إيجاد مركبة صغيرة تجر خلفها عربة، ووضع عليها بعض الفراش والأغطية، والحاجيات الضرورية، وترك منزله ممتلئاً بالأثاث والأجهزة الكهربائية، لم يستطع حملها أو نقلها معه.
وبيّن شاكر أنه غادر مدينة غزة في رحلة إلى المجهول، لا يعلم أين سيذهب أو يقيم، وإلى أي مدى ستنتهي هذه الرحلة، وإن كان أكثر ما يخشاه أن يُجبر وعائلته على الهجرة قسراً من القطاع.
وأوضح أنه حين غادر مدينة غزة نهاية تشرين الأول من العام 2023 نازحاً باتجاه رفح، كان لديه أمل كبير بالعودة إلى مدينة غزة، وكان يشعر حينها بأنها رحلة نزوح مؤقتة، لكن هذه المرة لديه شعور مختلف، فقد لا يعود إلى مدينته، وفي حال عاد لن يجد منزله قائماً، كما أنه يفكر كيف سيعيش وأسرته، وأين سيقيمون، فلا توجد أماكن خالية، ولا يمتلك خيمة، فهي رحلة كما وصفها إلى المجهول.
وقال: إن أطفاله يسألونه دائماً "وين بدنا نروح بعد هيك؟"، لكنه لا يمتلك أي إجابة ويظل صامتاً، فالاحتلال يتلاعب بهم كحجارة الشطرنج، ولا يعلم ما هي المحطة الأخرى، خاصة في ظل تزايد الحديث عن اجتياح كامل قطاع غزة.
ويشترك غالبية النازحين من مدينة غزة مع شاكر في عدم معرفتهم أين وجهتهم، وماذا ينتظرهم، مؤكدين جميعاً أنها رحلة النزوح الأصعب والأخطر منذ بداية العدوان، خاصة مع إصرار الاحتلال على تدمير مدينة غزة بشكل كامل، وتزايد الحديث عن قرب تنفيذ خطة التهجير للسكان خارج القطاع.
واضطر عشرات الآلاف من المواطنين للنزوح من مدينة غزة باتجاه الجنوب، بعد تزايد ضغط الاحتلال عليهم، من خلال المجازر، وإحراق البيوت والخيام، والحرب النفسية التي تمارسها قوات الاحتلال ضدهم.
رحل جائعاً مقهوراً
ودّع سكان مدينة رفح النازحون في مواصي خان يونس، الدكتور والمحاضر الجامعي عمر حرب، أحد أبرز الشخصيات الاعتبارية والعلمية في المدينة، والذي كان له أثر في دعم الكثير من المبادرات في شتى المجالات، إضافة إلى دوره الأكاديمي والتعليمي.
الدكتور حرب قضى بعد رحلة من الجوع والمرض والقهر، فقد خلالها أكثر من نصف وزنه، وعانى ويلات المرض.
ولم يكن الجوع والمرض وحدهما ما عانى منهما حرب، إذ فقد غالبية أفراد أسرته بمن فيهم زوجته، وأبناؤه، وأشقاؤه وأبناؤهم، وأحفاده، بمجموع 26 شهيداً، جراء غارة استهدفت منزلهم شمال مدينة رفح في بداية الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة، ثم نزح أكثر من مرة آخرها كانت إلى مدينة خان يونس، حيث عاش المجاعة الحالية في أسوأ فصولها، وأصيب بمضاعفات الجوع، وقد ظهر في أكثر من لقاء مصوّر بجسد نحيل، وصوت خافت، شاكياً الجوع والمرض، متحدثاً عن حاله في ظل المجاعة، ذاكراً عائلته التي رحلت بعد القصف الإسرائيلي لمنزله.
ونشر نشطاء صوراً للدكتور حرب، تُظهر كيف كان قبل الحرب، وكيف أصبح في ظل المجاعة، وتُظهر الصور مقارنات صادمة، حيث تغيّر شكله، ونحف جسده، وانطفأ وجهه، كما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات نعي الدكتور حرب، وذكر مناقبه.
وأكد هارون المدلل رئيس تجمع "مبادرو رفح" الخيري، أن الدكتور عمر حرب كان من أبرز الشخصيات في رفح، وكان رجلاً معطاء مقداماً لا يتوانى عن خدمة الناس.
وأوضح المدلل أن أولى الفجائع التي أصابت حرب كانت باستشهاد خطيب ابنته عبير عام 2020، حيث حزن لحزنها، وكان دائماً يواسيها ويدعمها، لكن الفجائع توالت بعد ذلك، حيث فقد غالبية أفراد أسرته بمن فيهم عبير في قصف استهدف منزلهم برفح، وحزن حزناً شديداً، لكنه واصل حياته بإصرار، حتى جاءت المجاعة الأخيرة، التي تلاقت مع الأمراض التي يعاني منها، فنهشت جسده حتى رحل.
وأكد المدلل أن قطاع غزة عامة ومدينة رفح على وجه الخصوص فقدت خيرة رجالها، من العلماء، والوجهاء، والمبادرين، ووجوه الخير، فالاحتلال يتعمّد قتل خيرة الناس لإحداث هزة في المجتمع.
0 تعليق