لم تبنِ إسرائيل عقيدتها العسكرية على الدفاع فقط، بل على الهجوم باعتباره الوسيلة الأنجع لضمان البقاء في محيط عربي واسع، فهي تدرك ضيق مساحتها وضعف عمقها الاستراتيجي، لذلك صاغت مبادئ عملياتها على أساس المبادأة والضربة الاستباقية، والاعتماد على التفوق الجوي والاستخبارات الدقيقة، لكن رغم أن هذه المبادئ منحتها إنجازات عسكرية سريعة في بعض الحروب، فإنها في المقابل كشفت عن نقاط ضعف خطيرة جعلت تلك الانتصارات مؤقتة ومكلفة سياسيًا ومعنويًا.
أول هذه المبادئ هو المبادأة والضربة الاستباقية، وقد تجسد بوضوح في حرب يونيو 1967 عندما دمرت إسرائيل الطيران المصري والسوري على الأرض، لتضمن السيطرة الجوية وتحسم الحرب بسرعة، غير أن هذا المبدأ نفسه أصبح نقطة ضعف لاحقًا، إذ جعل إسرائيل أسيرة لفكرة الضربة الأولى، ما ولد لديها هاجسًا دائمًا يدفعها أحيانًا إلى قرارات متسرعة، كما أن نجاح 1967 جعل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أكثر غرورًا وأقل استعدادًا لمفاجآت معاكسة، وهو ما حدث في أكتوبر 1973 حين باغتتها مصر وسوريا بهجوم منسق أربك القيادة وأفقدها ثقتها الكاملة بعقيدتها.
أما مبدأ التفوق الجوي، الذي يعد العمود الفقري للهجوم الإسرائيلي، فقد أظهر قوة في الحروب النظامية، لكنه فشل في تحقيق الحسم أمام حركات المقاومة غير النظامية، ففي لبنان 2006 وغزة 2014 و2021، استخدمت إسرائيل سلاحها الجوي بكثافة مدمرة، لكنها عجزت عن إسكات صواريخ المقاومة أو فرض شروطها السياسية، وهنا ظهر أن الاعتماد المفرط على السماء لا يغني عن وجود قوة برية قادرة على فرض السيطرة على الأرض، وهو ما تتجنبه إسرائيل خشية الخسائر البشرية الكبيرة.
وتقوم العقيدة الهجومية أيضًا على المفاجأة والسرعة، غير أن عنصر المفاجأة لم يعد مضمونًا في ظل التطور التكنولوجي ووسائل الرصد الحديثة لدى الخصوم، بل إن سرعة التقدم الإسرائيلي قد تتحول إلى اندفاع غير محسوب، كما حدث في اجتياح لبنان 1982 حين تورطت القوات في مستنقع طويل المدى انتهى بخسائر كبيرة وتورط سياسي عميق، ومن هنا فإن ما اعتُبر في البداية قوة تكتيكية، تحول لاحقًا إلى عبء استراتيجي يصعب التخلص منه.
كما أن التركيز على مراكز الثقل عبر استهداف القيادات والبنى التحتية أثبت محدوديته أمام تنظيمات تعتمد على شبكات لا مركزية، ففي غزة مثلًا، ورغم الضربات المتكررة لمقار الفصائل والأنفاق والمخازن، سرعان ما تعود المقاومة لتجديد بنيتها وتعويض خسائرها، وهكذا تحولت سياسة قطع الرأس إلى عملية استنزاف بلا نهاية، تُظهر أن الضربة الموجعة لا تعني بالضرورة شل الخصم أو كسر إرادته.
أما مبدأ المرونة والمناورة الذي ما دام تفاخر به الجيش الإسرائيلي، فقد اصطدم بعقبات الجغرافيا والديموغرافيا، فالمناورة المدرعة السريعة التي نجحت في بعض الاراضي المفتوحة لا يمكن تكرارها في شوارع غزة الضيقة أو جبال جنوب لبنان الوعرة، ومع ازدياد خبرة المقاومة في حرب المدن وحرب العصابات، أصبحت أي عملية برية إسرائيلية مكلفة جدًا، وهو ما جعل القيادة السياسية تتردد دائمًا في إعطاء الضوء الأخضر للاجتياحات الواسعة.
ولا يمكن إغفال الاعتماد الكبير على الاستخبارات، صحيح أن المعلومات الدقيقة كانت مفتاح نجاح إسرائيل في كثير من العمليات، لكنها أحيانًا تحولت إلى نقطة ضعف قاتلة، فالاستخبارات الإسرائيلية لم تتمكن من توقع هجوم أكتوبر 1973، كما فشلت في تقدير قدرات حزب الله عام 2006، وعجزت عن منع المفاجآت التي أحدثتها المقاومة الفلسطينية في أكثر من مواجهة.
كذلك، فإن استخدام الضغط النفسي والمعنوي على الخصوم عبر القصف المكثف أو الاستهداف المدني لم يحقق النتائج المرجوة، بل أتى بنتائج عكسية، فبدلًا من كسر إرادة المقاومة، عزز القصف عزيمة المجتمعات المحلية على الصمود، ورفع منسوب الكراهية تجاه إسرائيل عالميًا، ما انعكس سلبًا على صورتها السياسية والدبلوماسية.
وأخيرًا، يبقى مبدأ الحسم السريع أحد أكثر نقاط الضعف وضوحًا، فإسرائيل لا تملك رفاهية الحروب الطويلة بسبب ضيق مساحتها وحساسيتها الداخلية، لكنها في الواقع تورطت مرارًا في مواجهات امتدت أسابيع أو شهور، ومع كل يوم إضافي، كانت تكلفة الحرب ترتفع والضغط الدولي يتزايد، لتثبت أن النصر الخاطف ليس ممكنًا دائمًا، وأن الهجوم السريع قد ينقلب إلى حرب استنزاف طويلة.
في المحصلة، يمكن القول إن المبادئ العامة للعمليات الهجومية الإسرائيلية التي صاغتها التجارب العسكرية المبكرة أظهرت قوة تكتيكية، لكنها حملت في طياتها نقاط ضعف استراتيجية خطيرة، فهي قد تصلح لحسم معركة قصيرة ضد جيوش نظامية وحتي تلك المعارك لا يمكن القول إنه ا حاسمة فبعض الجيوش لديها مفاجأت ربما لم يسمع عنها العالم، لكنها تفشل في تحقيق نصر سياسي مستدام أمام حركات مقاومة غير نظامية.
بل إن الإفراط في الاعتماد عليها جعل إسرائيل عالقة في دائرة مفرغة تفوق عسكري لحظي يقابله عجز سياسي طويل الأمد وهذا بالضبط هو التناقض الأكبر في العقيدة الإسرائيلية، حيث لا يضمن الهجوم ومهما كان مفاجئًا وسريعًا نهاية الصراع أو تحقيق أمن دائم.
0 تعليق