كتبت بديعة زيدان:
تحت عنوان "أعزائي المشاهدين"، تُقيم الفنانة الفلسطينية رائدة سعادة، في دارة الفنون في العاصمة الأردنية عمّان، معرضاً يضمّ مجموعة اعمال تتنوع بين تركيبات فنية، وصور فوتوغرافية، وأعمال فيديو.
يتمحور المعرض حول فكرة الاستمرارية في خضم الانهيار، فأعمال سعادة تبدأ "في منتصف الأشياء، حيث يكون الانهيار قد وقع بالفعل، وما زال مستمراً، لكن الحياة بطريقة ما تستمر".
و"أعزائي المشاهدين"، عنوان تركيب فني أنجزته الفنانة العام الحالي، أيضاً، ويحاكي مشهد دمار شامل، حيث تبدو أعمدة وبقايا مبنى منهار مكدسة في فوضى، لكن عند الفحص الدقيق، تتكشف المفارقة الصادمة التي هي جوهر العمل، فالأنقاض ليست مصنوعة من الخرسانة والحجارة، بل من مادة عضوية خفيفة وهشة تشبه حبوب الذرة المنتفخة، فباستخدام مادة غذائية أساسية لتمثيل الدمار، تربط سعادة بين الحدث السياسي الكبير كالحرب وتفاصيل الحياة اليومية الحميمة، فالخراب هنا ليس مجرد كومة من الركام البعيد، بل هو شيء مصنوع من المادة التي نأكلها، ما يشير إلى أن العنف والسياسة يتخللان كل جانب من جوانب الوجود، ويجعلان أساسيات الحياة نفسها هشة وغير مستقرة، ما يشكل تجسيداً مادياً للواقع.
ثمة العديد من الأعمال الفنيّة الفوتوغرافية في المعرض، من بينها: "يوما ما" (2013)، ويظهر سعادة في مواجهة مباشرة مع جدار الفصل العنصري، لدرجة يمكن اعتبارها بياناً بصريّاً عن استمرارية المقاومة حتى وإن بدت عبثية، وعن القوة الكامنة في التحدي الساخر، ورفض الخضوع لمنطق القوة.
من هذه الصور ما يمكن وصفها بـ"الصلاة تحت المراقبة"، مع أنها "بلا عنوان" (2024)، ونرى فيها الفنانة في لحظة خشوع وصلاة، محاطة بالطبيعة المشرقة والسكينة، لكن هذا المشهد الروحي الهادئ يتم اختراقه بشكل عنيف من خلال وجود كاميرا مراقبة مثبتة فوقها مباشرة، في مفارقة حادة بين الخاص والعام، وبين الحرية الروحية والقيد السياسي، حيث لا مساحة خاصة أو حميمة بمنأى عن رقابة الاحتلال.
أما "مفترق طرق" (2003)، فهو عمل فني غني بالرموز والدلالات العميقة، ويقدم تحليلاً بصرياً قوياً للحالة الفلسطينية، في صورة، تقف فيها سعادة بصلابة وثقة، وتضع إحدى قدميها داخل كتلة حجرية، فالكتلة الحجرية ليست مجرد قاعدة، بل هي رمز للأرض، وللتجذر، وللأساس الصلب للهوية، أما نظرتها الحادة والمباشرة إلى المشاهد فهي فعل تحدٍ بحد ذاته.
وتتجاوز "بحر" (2024)، كونها مجرد صورة لجهة اعتبارها عملاً فنيّاً ذا طبقات متعددة من المعاني، فهو من جهة يمثّل تأملاً عميقاً في طبيعة هذه المعاناة وكيفية تمثيلها، وفي الوجود الفلسطيني كحالة من التعلّق القسري، رغم الاستنزاف المستمر للأمل.
وفي المعرض أيضاً، ثلاث شاشات تعرض أفلاماً لسعادة ضمن معرض "أعزائي المشاهدين". كل منها يحمل عالماً رمزياً خاصاً به، فـ"العبور" (13:56 دقيقة)، فيديو أدائي شاعري وغامض، تم تصويره في مشهد طبيعي غير مألوف، بحيث تظهر سعادة، ترتدي ثوباً أبيض طويلاً، واقفة في مياه بحر أو بحيرة باردة على شاطئ أسود، تحمل بين يديها دفاً كبيراً، وتقوم بأداء حركات طقوسية بطيئة، قبل أن تغمر الدف في الماء وتحركه كأنها تقوم بفعل تطهير أو استحضار، في إشارة حول الاغتراب والشتات.
أما فيديو "سادتي الحمير" (3:34 دقيقة)، فيتميز بطابعه الساخر والعبثي، ويقدم نقداً سياسياً لاذعاً للخطاب السياسي السائد.
ويذهب ثالثهم "غسيل" (12:16 دقيقة)، إلى المفارقة البصرية الحادة، ففي مكان مفتوح يغطيه الضباب، وأمام طبق "ستالايت" ضخم، تقوم الفنانة بغسل الملابس يدوياً في أوعية بدائية، وكأنها تقول إنه "رغم كل هذه التكنولوجيا الضخمة والمهيمنة، فإن الحياة اليومية بأبسط تفاصيلها تستمر"، وإن "فعل الغسيل هنا فعل صمود، إعلان عن أن الحياة العادية، بمتطلباتها البسيطة، تفرض نفسها وتستمر حتى في أكثر البيئات غرابة وتهديداً"، وهو أيضاً "تأكيد على الإنسانية في مواجهة أنظمة القوة والاحتلال".
0 تعليق