شكلت جدلية: "أيهما أولا التنمية أم الديمقراطية؟" سؤالا مشروعا ومهما وواقعيا على مدى نصف قرن مضى، شغل العديد من الكتّاب والمفكرين والباحثين والقادة والزعماء. وهو سؤال لا يزال قائما، وله شواهد عديدة تؤكد صوابيته وأهميته.
ربما لم تكن مقولة التنمية قبل الديمقراطية فكرة عبثية، بقدر ما كانت استجابة لتحديات واقعية وحقيقية في مرحلة ما بعد الاستعمار، وخاصة في شرق آسيا، حيث بدأت فكرة التنمية قبل الديمقراطية تتجذر في الواقع السياسي والاجتماعي هناك مبكرا، وخاصة مع تجربة الزعماء الآسيويين الثلاثة، السنغافوري لي كوان يو، والماليزي مهاتير محمد، وكذلك قبلهما الزعيم الكوري الجنوبي بارك تشونغ هي، 1961-1979، والذي كان يرى كسابقَيه أن التنمية والإصلاحات الاقتصادية يجب أن تسبق أي حديث عن الديمقراطية.
أما في السياق الأكاديمي فبقيت جدلية "التنمية قبل الديمقراطية" مسألة نسبية يتم نقاشها في سياقات عديدة، ضمن حديث متكرر عن الحتمية الليبرالية الاقتصادية التي تعد الديمقراطية وجهها السياسي، وهي حتمية فوكويامية بدأت اليوم تأخذ منحى مغايرا تماما في ظل مؤشرات التقدم الصيني والآسيوي عموما، بينما يتراجع الاقتصاد الغربي اليوم.
ولهذا كان سؤال "التنمية أولا" في السياق الأكاديمي مرتبطا بنظريات مثل "نظرية التحديث" التي ترى أن التنمية الاقتصادية تقود تدريجيا إلى الديمقراطية، في مقابل وجهات نظر ترى أن الديمقراطية هي الأساس لتحقيق تنمية مستدامة، وهي المقولة التي تبدو مؤشرات فشلها اليوم أكثر وضوحا في ظل تجارب ديمقراطية كثيرة في العالم الثالث أدخلت مجتمعاتها في دوامة أزمات وصراعات سياسية عدة، هذا علاوة على انكشاف الموقف الغربي عموما من مسألة الديمقراطية نفسها.
ومن هنا، كانت العودة لنقاش هذه المقولة ضرورة في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية والعالمية، إذ برزت دلائل تؤيد أولوية التنمية، وعلى رأسها التجربة الصينية التي تقدم اليوم أقوى دعم لهذه الفكرة.
إعلان
وبغض النظر عن موقف الصين من الديمقراطية، تبقى لها تجربتها الخاصة، بما يعني أن الديمقراطية ليست قالبا جامدا يستعار، بل تجارب متعددة يصوغ كل مجتمع منها صيغته الخاصة.
وبالعودة للتجربتين الكورية والسنغافورية، وهما جديرتان بالدراسة، يظهر انطباق مقولة "التنمية قبل الديمقراطية" إلى حد بعيد؛ إذ ركز الزعيم الكوري، الذي جاء بانقلاب عسكري، على التنمية الاقتصادية والتصنيع السريع كأولوية تسبق أي حديث عن الإصلاحات الديمقراطية، وهو ما قفز بكوريا الجنوبية إلى الموقع الـ12 بين الاقتصادات العشرين الكبرى في عالم اليوم، والرابع آسيويا بعد الصين، واليابان، وإندونيسيا، بينما تحتل سنغافورة المرتبة الـ 28 عالميا، والسادسة من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي.
وتعيد مؤشرات التراجع الاقتصادي الغربي- على الرغم من تقدمه ديمقراطيا وتشريعيا- أمام صعود الصين الاقتصادي ذات الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي، النقاشَ حول التنمية والديمقراطية وأيهما أولا؛ فالتقدم التنموي الصيني بات لافتا وارتد إيجابا على رفاه المجتمع وجودة الصحة والتعليم، مع بقاء قبضة مشددة على الحقوق والحريات السياسية.
أما في عالمنا العربي، ورغم رفع الأنظمة بعد الاستعمار شعار "التنمية أولا"، فإنه لم يتحقق في واقع الحال سوى بعض صور التنمية المحدودة كما في التجربتين: البعثية في العراق، والناصرية في مصر. لكن الحروب الطويلة والعديدة التي خاضها النظامان أعاقت استمرار هاتين التجربتين، ومثلهما تجارب عربية أخرى.
أما الأنظمة التي خلفت نظامي صدام وناصر في بغداد والقاهرة، فقد حققت تراجعا أعمق على كل المستويات، تحت لافتة الديمقراطية عينها، وهي أحط صور الديمقراطية في العالم، وهي حالة عمت في النظم الجمهورية العربية، فقادت الشعوب إلى ثورات الربيع العربي التي تم إجهاضها قبل عقد من الزمان.
ولا تزال تداعياتها قائمة حتى اللحظة، فلا تنمية ولا ديمقراطية، وتشكلت صورة من الأنظمة الهشة المفككة، بل لا تزال مجتمعات ما بعد الربيع العربي في حروب طاحنة تنتهي لتبدأ، وتعيش حالة من الانقسام والصراعات المستمرة.
لكن ثمة تجربة تنموية عربية لافتة، وهي تجربة دول الخليج العربي، وما تقدمه من صورة تنموية جيدة، غير أن كثيرا من إنجازاتها نابع من اقتصاد ريعي ووفرة نفطية أكثر منه من خطط تخلق الفرص.
والتحدي اليوم هو تحويل الريع إلى تنمية حقيقية لما بعد النفط تقوم على تنمية الإنسان المنتج، علما أن هذه المجتمعات لا تعيش جدل الأولوية بين التنمية والديمقراطية لكونها ملكيات ذات عقد اجتماعي خاص لا يثير إشكالا في هذا الباب.
في المقابل، تظهر في أفريقيا- خاصة شرقها وغربها كإثيوبيا، وكينيا، ورواندا، والسنغال- نزعة للتحرر من إملاءات النيوليبرالية الغربية من علمانية وديمقراطية وحقوق وحريات تستخدم للابتزاز والسيطرة على خيراتها ومقدراتها.
ومع كسر الهيمنة الغربية المطلقة في أفريقيا بصعود الصين اقتصاديا بدأت هذه المجتمعات تقدم مقاربات واقعية تناسبها فيما يتعلق بسؤال "التنمية أولا" كما هو الحال في رواندا، وإثيوبيا، وهو ما يعزز مقولة أن لكل مجتمع تجربته الخاصة به والتي ليس شرطا أن تكون مشابهة للمجتمعات الغربية أو نسخة منها.
إعلان
وفي هذا السياق أتذكر حوارا دار بيني وبين بروفيسور صيني متخصص بالدراسات العربية، التقيته على هامش مؤتمر عقد في الإسكندرية 2012، فعلى إثر نقاش دار بيننا كان مبتدؤه حديثي عن وسائل التواصل فيسبوك وتويتر، وهما كانا حديث الساعة حينها، بسبب ثورات الربيع العربي.
قلت يومها له: لماذا تقيد الصين وسائل التواصل ولا تسمح بها؟
فرد ضاحكا: وهل لدى الصينيين فائض من الوقت لإضاعته في ثرثرات عدمية لا فائدة منها؟
فقلت: لكن هذه الوسائل غدت اليوم جزءا من لوازم العصر لا يمكن الاستغناء عنه.
فقال: نحن في الصين لدينا مشاكل تختلف عن مشاكلكم ومشاكل الغرب، ولنا خصوصياتنا ومشاكلنا التي نعكف على حلها ولا ننتظر من أحد أن يحلها لنا، وفي مقدمتها التنمية التي ينتظرها المواطن الصيني لحل أزمة السكن والتعليم والتطبيب، والتي سبق الغرب أن حلها لمواطنيه، ولديهم فائض وقت لإضاعته في وسائل التواصل، وكذلك أنتم العرب لم تبدؤوا بالتنمية ولن تلحقوا بالديمقراطية.
ختاما، يمكننا القول إن كثيرا من المقولات والمسلمات التي طرحت من قبل تستلزم اليوم إعادة النظر فيها وإعادة تعريفها من جديد -كالديمقراطية والليبرالية وكل ما يتعلق بهما من شعارات- في ضوء ما نراه اليوم من شرق آسيوي متقدم بلا شعارات فارغة في مواجهة غرب مخاتل يرفع شعارات لكنه يتنصل منها ويتنكر لها مع تراجعه الاقتصادي الكبير.
نحن إزاء تجارب تقدمت بلا ديمقراطية ولا ليبرالية كان يرى الغرب يسوقهما كحتمية لتحقيق التنمية والرفاه، فإذا بهذه الحتمية تنكسر أمام شرق يتقدم من دونها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق