جيمي ماكغيفر *
في عالم تتسارع فيه الأحداث الاقتصادية، لم يكن أحد يتوقع أن تتحول العملة الصينية، «اليوان»، إلى أداة سياسية ودبلوماسية رفيعة في مواجهة التصعيد التجاري بين بكين وواشنطن. ومع ذلك، فإن ما نشهده اليوم يؤكد أن الصين اختارت طريقاً مغايراً تماماً لما كان يتصوره المراقبون في بداية العام.
فالتقديرات الأولية كانت واضحة: بكين سترد على الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر خفض قيمة عملتها مقابل الدولار. خطوة كهذه كانت ستجعل الصادرات الصينية أكثر تنافسية، وتساعد الشركات على تعويض خسائرها في السوق الأمريكية، فضلاً عن أنها قد تشكّل «طعنة اقتصادية» في خاصرة واشنطن التي طالما رفعت شعار «الدولار الأقوى».
لكن الصين خالفت التوقعات. صحيح أن اليوان هبط في إبريل/نيسان إلى أدنى مستوى له منذ 18 عاماً، عند حدود 7.35 لكل دولار، بالتزامن مع إعلان إدارة ترامب ما سمّته «يوم التحرير» عبر حزمة رسوم جمركية جديدة. إلا أن العملة الصينية عادت سريعاً لتكسب زخماً غير متوقع، لترتفع إلى أعلى مستوى لها هذا العام عند 7.12 لكل دولار. والأهم من ذلك أنها سجلت في أغسطس/آب أكبر مكاسب شهرية أمام العملة الأمريكية منذ عام تقريباً.
فما الذي حدث؟ جزء من الإجابة يكمن في التدفقات الرأسمالية الأجنبية القوية إلى الصين، فقد بلغ مؤشر شنغهاي المركب للأسهم أعلى مستوى له منذ عقد، مدعوماً بتدفقات صافية قياسية من صناديق التحوط، إضافة إلى الفائض التجاري العالمي لبكين الذي بلغ مستوى غير مسبوق في الأشهر السبعة الأولى من 2025. كل ذلك يوفّر وصفة طبيعية لعملة أقوى.
لكن الصورة ليست اقتصادية بحتة. فاليوان، خلافاً لكثير من العملات الأخرى، يخضع لرقابة مُحكمة من قبل السلطات النقدية. وبالنظر إلى المعطيات الراهنة، يبدو أن تعزيز قيمته قرار سياسي بامتياز، وليس مجرد انعكاس لقوى السوق.
قد يبدو الأمر غير منطقي للوهلة الأولى. فالاقتصاد الصيني لا يزال يرزح تحت ضغوط انكماشية، ومعدلات الاستهلاك المحلي ضعيفة. ومع ذلك، تصرّ بكين على دفع عملتها نحو الأعلى. هنا يظهر البعد الاستراتيجي: رفع قيمة اليوان ليس فقط رسالة قوة، بل إشارة أيضاً إلى الاستعداد للتفاوض.
وأعلنت إدارة ترامب بوضوح أنها تريد دولاراً أضعف، لتسهيل صادرات أمريكية أكثر قدرة على المنافسة. وإذا كانت الصين قادرة على المساعدة في تحقيق ذلك، عبر تقوية عملتها، وبالتالي عملات آسيوية أخرى مرتبطة بها، فإنها تقدم لواشنطن ما يشبه «غصن الزيتون» في خضم المواجهة.
لكن هناك حسابات داخلية أيضاً. فالرئيس شي جين بينغ يواجه تحديات حقيقية، تباطؤاً في الطلب المحلي، تراجعاً في مؤشرات الصناعة والإنشاءات، ومزاجاً استهلاكياً سلبياً. وهو يدرك أن تجديد الثقة يتطلب خطوات ملموسة، بدءاً من تحفيز الابتكار ودعم الشركات الصغيرة، وصولاً إلى كبح ما يسميه الصينيون «دوامة المنافسة المفرطة».
وفي هذا السياق، يمكن لعملة أقوى أن تعزز القدرة الشرائية للمستهلك الصيني، وتشجع على الاستهلاك الداخلي. وهو هدف استراتيجي يتجاوز حسابات التجارة مع الولايات المتحدة. وكما خلُص محللو «غولدمان ساكس»، فإن ما يجري اليوم «دفع سياسي، لا سحب سوقي».
* كاتب متخصص في الاقتصاد
وأسواق المال (رويترز)
«اليوان».. غصن الزيتون في مواجهة الدولار - زاجل الإخباري

«اليوان».. غصن الزيتون في مواجهة الدولار - زاجل الإخباري
0 تعليق